ثم قال تعالى : ( فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم ) .
واعلم أن الأمة مجمعة على أن لوجوه : الوصي إذا دفع المال إلى اليتيم بعد صيرورته بالغا ، فإن الأولى والأحوط أن يشهد عليه
أحدها : أن اليتيم إذا كان عليه بينة بقبض المال كان أبعد من أن يدعي ما ليس له .
وثانيها : أن اليتيم إذا أقدم على الدعوى الكاذبة أقام الوصي الشهادة على أنه دفع ماله إليه .
ثالثها : أن تظهر أمانة الوصي وبراءة ساحته ، ونظيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " " فأمره بالإشهاد لتظهر أمانته وتزول التهمة عنه ، فثبت بما ذكرنا من الإجماع والمعقول أن الأحوط هو الإشهاد . واختلفوا في أن من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل ولا يكتم ولا يغيب وكذلك لو قال : أنفقت عليه في صغره هل هو مصدق ؟ قال مالك الوصي إذا ادعى بعد بلوغ اليتيم أنه قد دفع المال إليه هل هو مصدق ؟ : لا يصدق ، وقال والشافعي وأصحابه : يصدق ، واحتج أبو حنيفة بهذه الآية فإن قوله : ( الشافعي فأشهدوا عليهم ) أمر ، وظاهر الأمر الوجوب ، وأيضا قال : القيم غير مؤتمن من جهة اليتيم ، وإنما هو مؤتمن من جهة الشرع ، وطعن الشافعي في هذا الكلام مع السفاهة الشديدة وقال : لو كان ما ذكره علة لنفي التصديق لوجب أن لا يصدق القاضي إذا قال لليتيم : قد دفعت إليك ؛ لأنه لم يأتمنه ، وكذلك يلزمه أن يقول في الأب إذا قال بعد بلوغ الصبي : قد دفعت مالك إليك أن لا يصدق ؛ لأنه لم يأتمنه ، ويلزمه أيضا أن يوجب الضمان عليهم إذا تصادقوا بعد البلوغ أنه قد هلك لأنه أمسك ماله من غير ائتمان له عليه ، فيقال له : إن قولك هذا لبعيد عن معاني الفقه ، أما النقض بالقاضي فبعيد ؛ لأن القاضي حاكم فيجب إزالة التهمة عنه ليصير قضاؤه نافذا ، ولولا ذلك لتمكن كل من قضى القاضي عليه بأن ينسبه إلى الكذب والميل والمداهنة ، وحينئذ يحتاج القاضي إلى قاض آخر ، ويلزم التسلسل ، ومعلوم أن هذا المعنى غير موجود في وصي اليتيم ، وأما الأب فالفرق ظاهر لوجهين : أبو بكر الرازي
أحدهما : [ ص: 157 ] أن شفقته أتم من شفقة الأجنبي ، ولا يلزم من قلة التهمة في حق الأب قلتها في حق الأجنبي ، وأما إذا تصادقوا بعد البلوغ أنه قد هلك فنقول : إن كان قد اعترف بأنه هلك لسبب تقصيره فههنا يلزمه الضمان ، أما إذا اعترف بأنه هلك لا بتقصيره ، فههنا يجب أن يقبل قوله ، وإلا لصار ذلك مانعا للناس من قبول الوصاية ، فيقع الخلل في هذا المهم العظيم ، فأما الإشهاد عند الرد إليه بعد البلوغ فإنه لا يفضي إلى هذه المفسدة فظهر الفرق ، ومما يؤكد هذا الفرق أنه تعالى ذكر قبل هذه الآية ما يدل على أن اليتيم حصل في حقه ما يوجب التهمة ، وهو قوله : ( ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ) وهذا يدل على جريان العادة بكثرة إقدام الولي على ظلم الأيتام والصبيان ، وإذن دلت هذه الآية على تأكد موجبات التهمة في حق ولي اليتيم :