[ ص: 76 ] 
المسألة الثانية : أما قوله تعالى : ( يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي     ) ففيه مباحث : 
الأول : أن " الحي " اسم لما يكون موصوفا بالحياة ، و" الميت " اسم لما كان خاليا عن صفة الحياة فيه ، وعلى هذا التقدير : النبات لا يكون حيا . 
إذا عرفت هذا فللناس في تفسير هذا " الحي " و" الميت " قولان : 
الأول : حمل هذين اللفظين على الحقيقة . قال  ابن عباس    : يخرج من النطفة بشرا حيا ، ثم يخرج من البشر الحي نطفة ميتة ، وكذلك يخرج من البيضة فروجة حية ، ثم يخرج من الدجاجة بيضة ميتة ، والمقصود منه أن الحي والميت متضادان متنافيان ، فحصول المثل عن المثل يوهم أن يكون بسبب الطبيعة والخاصية . أما حصول الضد من الضد ، فيمتنع أن يكون بسبب الطبيعة والخاصية ، بل لا بد وأن يكون بتقدير المقدر الحكيم ، والمدبر العليم . 
والقول الثاني : أن يحمل " الحي " و" الميت " على ما ذكرناه ، وعلى الوجوه المجازية أيضا ، وفيه وجوه : 
الأول : قال الزجاج    : يخرج النبات الغض الطري الخضر من الحب اليابس ، ويخرج اليابس من النبات الحي النامي . 
الثاني : قال  ابن عباس    : يخرج المؤمن من الكافر ، كما في حق إبراهيم  ، والكافر من المؤمن كما في حق ولد نوح  ، والعاصي من المطيع ، وبالعكس . 
الثالث : قد يصير بعض ما يقطع عليه بأنه يوجب المضرة سببا للنفع العظيم ، وبالعكس . ذكروا في الطب أن إنسانا سقوه الأفيون الكثير في الشراب لأجل أن يموت ، فلما تناوله وظن القوم أنه سيموت في الحال رفعوه من موضعه ووضعوه في بيت مظلم ، فخرجت حية عظيمة فلدغته ، فصارت تلك اللدغة سببا لاندفاع ضرر ذلك الأفيون منه ، فإن الأفيون يقتل بقوة برده ، وسم الأفعى يقتل بقوة حره ، فصارت تلك اللدغة سببا لاندفاع ضرر الأفيون ، فهاهنا تولد عما يعتقد فيه كونه أعظم موجبات الشر أعظم الخيرات ، وقد يكون بالعكس من ذلك ، وكل هذه الأحوال المختلفة والأفعال المتدافعة تدل على أن لهذا العالم مدبرا حكيما ما أهمل مصالح الخلق وما تركهم سدى ، وتحت هذه المباحث مباحث عالية شريفة . 
البحث الثاني : من مباحث هذه الآية قرأ نافع  وحمزة  والكسائي  وحفص  عن عاصم    : " الميت " مشددة في الكلمتين ، والباقون بالتخفيف في الكلمتين ، وكذلك كل هذا الجنس في القرآن . 
البحث الثالث : أن لقائل أن يقول : إنه قال أولا : ( يخرج الحي من الميت    ) ثم قال : ( ومخرج الميت من الحي    ) وعطف الاسم على الفعل قبيح ، فما السبب في اختيار ذلك ؟ . 
قلنا : قوله : ( ومخرج الميت من الحي    ) معطوف على قوله : ( فالق الحب والنوى    ) وقوله : ( يخرج الحي من الميت    ) كالبيان والتفسير لقوله : ( فالق الحب والنوى    ) لأن فلق الحب والنوى بالنبات والشجر النامي من جنس إخراج الحي من الميت ؛ لأن النامي في حكم الحيوان . ألا ترى إلى قوله : ( ويحيي الأرض بعد موتها    ) [ الروم : 19] وفيه وجه آخر ، وهو أن لفظ الفعل يدل على أن ذلك الفاعل يعتني بذلك الفعل في كل حين وأوان . 
وأما لفظ الاسم فإنه لا يفيد التجدد والاعتناء به ساعة فساعة ، وضرب الشيخ  عبد القاهر الجرجاني  لهذا مثلا في كتاب " دلائل الإعجاز " فقال : قوله : ( هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء    ) [ فاطر : 3] إنما ذكره بلفظ الفعل وهو قوله : ( يرزقكم ) لأن صيغة الفعل تفيد أنه تعالى يرزقهم حالا فحالا ، وساعة فساعة . 
 [ ص: 77 ] 
وأما الاسم فمثاله قوله تعالى : ( وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد    ) [ الكهف : 18 ] فقوله : ( باسط    ) يفيد البقاء على تلك الحالة الواحدة . 
إذا ثبت هذا فنقول : الحي أشرف من الميت ، فوجب أن يكون الاعتناء بإخراج الحي من الميت أكثر من الاعتناء بإخراج الميت من الحي ، فلهذا المعنى وقع التعبير عن القسم الأول بصيغة الفعل ، وعن الثاني بصيغة الاسم ؛ تنبيها على أن الاعتناء بإيجاد الحي من الميت أكثر وأكمل من الاعتناء بإيجاد الميت من الحي . والله أعلم بمراده . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					