المسألة الثانية :
nindex.php?page=treesubj&link=28977قوله تعالى : ( nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=100وجعلوا لله شركاء الجن ) معناه : وجعلوا الجن شركاء لله .
فإن قيل : فما الفائدة في التقديم ؟
[ ص: 94 ] قلنا : قال
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه : إنهم يقدمون الأهم الذي هم بشأنه أعنى ، فالفائدة في هذا التقديم استعظام أن يتخذ لله شريك ؛ سواء كان ملكا أو جنيا أو إنسيا أو غير ذلك ، فهذا هو السبب في تقديم اسم الله على الشركاء .
إذا عرفت هذا فنقول : قرئ : " الجن " بالنصب والرفع والجر ، أما وجه النصب فالمشهور أنه بدل من قوله : " شركاء " قال بعض المحققين : هذا ضعيف لأن البدل ما يقوم مقام المبدل ، فلو قيل : وجعلوا لله الجن لم يكن كلاما مفهوما ، بل الأولى جعله عطف بيان . أما وجه القراءة بالرفع فهو أنه لما قيل : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=100وجعلوا لله شركاء ) فهذا الكلام لو وقع الاقتصار عليه لصح أن يراد به الجن والأنس والحجر والوثن ، فكأنه قيل : ومن أولئك الشركاء ؟ فقيل : الجن . وأما وجه القراءة بالجر فعلى الإضافة التي هي للتبيين .
المسألة الثالثة : اختلفوا في تفسير هذه الشركة على ثلاثة أوجه :
فالأول : ما ذكرناه من أن المراد منه حكاية قول من يثبت للعالم إلهين ؛ أحدهما فاعل الخير ، والثاني فاعل الشر .
والقول الثاني : أن الكفار كانوا يقولون : الملائكة بنات الله ، وهؤلاء يقولون : المراد من الجن الملائكة ، وإنما حسن إطلاق هذا الاسم عليهم ؛ لأن لفظ الجن مشتق من الاستتار ، والملائكة مستترون عن الأعين ، وكان يجب على هذا القائل أن يبين أنه كيف يلزم من قولهم الملائكة بنات الله ؟ قولهم بجعل الملائكة شركاء لله حتى يتم انطباق لفظ الآية على هذا المعنى ، ولعله يقال : إن هؤلاء كانوا يقولون : الملائكة مع أنها بنات الله فهي مدبرة لأحوال هذا العالم ، وحينئذ يحصل الشرك .
والقول الثالث وهو قول
الحسن وطائفة من المفسرين : إن المراد أن الجن دعوا الكفار إلى عبادة الأصنام ، وإلى القول بالشرك ، فقبلوا من الجن هذا القول وأطاعوهم ، فصاروا من هذا الوجه قائلين : يكون الجن شركاء لله تعالى ، وأقول : الحق هو القول الأول ، والقولان الأخيران ضعيفان جدا ، أما تفسير هذا الشرك بقول العرب : الملائكة بنات الله ، فهذا باطل من وجوه :
الوجه الأول : أن هذا المذهب قد حكاه الله تعالى بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=100وخرقوا له بنين وبنات بغير علم ) فالقول بإثبات البنات لله ليس إلا قول من يقول الملائكة بنات الله ، فلو فسرنا قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=100وجعلوا لله شركاء الجن ) بهذا المعنى يلزم منه التكرار في الموضع الواحد من غير فائدة ، وأنه لا يجوز .
الوجه الثاني : في إبطال هذا التفسير أن العرب قالوا : الملائكة بنات الله ، وإثبات الولد لله غير ، وإثبات الشريك له غير ، والدليل على الفرق بين الأمرين أنه تعالى ميز بينهما في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=3لم يلد ولم يولد nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=4ولم يكن له كفوا أحد ) [ الإخلاص : 3 ، 4 ] ولو كان أحدهما عين الآخر لكان هذا التفصيل في هذه السورة عبثا .
الوجه الثالث : أن القائلين بيزدان وأهرمن يصرحون بإثبات شريك لإله العالم في تدبير هذا العالم ، فصرف اللفظ عنه وحمله على إثبات البنات صرف للفظ عن حقيقته إلى مجازه من غير ضرورة وأنه لا يجوز .
وأما القول الثاني : وهو قول من يقول المراد من هذه الشركة : أن الكفار قبلوا قول الجن في عبادة الأصنام ، فهذا في غاية البعد لأن الداعي إلى القول بالشرك لا يجوز تسميته بكونه شريكا لله لا بحسب حقيقة اللفظ ولا بحسب مجازه ، وأيضا فلو حملنا هذه الآية على هذا المعنى لزم وقوع التكرير من غير فائدة ؛ لأن
[ ص: 95 ] الرد على عبدة الأصنام ، وعلى عبدة الكواكب قد سبق على سبيل الاستقصاء ، فثبت سقوط هذين القولين ، وظهر أن الحق هو القول الذي نصرناه وقويناه .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ :
nindex.php?page=treesubj&link=28977قَوْلُهُ تَعَالَى : ( nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=100وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ ) مَعْنَاهُ : وَجَعَلُوا الْجِنَّ شُرَكَاءَ لِلَّهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا الْفَائِدَةُ فِي التَّقْدِيمِ ؟
[ ص: 94 ] قُلْنَا : قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16076سِيبَوَيْهِ : إِنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الْأَهَمَّ الَّذِي هُمْ بِشَأْنِهِ أَعَنَى ، فَالْفَائِدَةُ فِي هَذَا التَّقْدِيمِ اسْتِعْظَامُ أَنْ يُتَّخَذَ لِلَّهِ شَرِيكٌ ؛ سَوَاءٌ كَانَ مَلَكًا أَوْ جِنِّيًّا أَوْ إِنْسِيًّا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ، فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي تَقْدِيمِ اسْمِ اللَّهِ عَلَى الشُّرَكَاءِ .
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ : قُرِئَ : " الْجِنَّ " بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ وَالْجَرِّ ، أَمَّا وَجْهُ النَّصْبِ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ : " شُرَكَاءَ " قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ : هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْبَدَلَ مَا يَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ ، فَلَوْ قِيلَ : وَجَعَلُوا لِلَّهِ الْجِنَّ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا مَفْهُومًا ، بَلِ الْأَوْلَى جَعْلُهُ عَطْفُ بَيَانٍ . أَمَّا وَجْهُ الْقِرَاءَةِ بِالرَّفْعِ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا قِيلَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=100وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ ) فَهَذَا الْكَلَامُ لَوْ وَقَعَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ لَصَحَّ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجِنُّ وَالْأِنْسُ وَالْحَجَرُ وَالْوَثَنُ ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ : وَمَنْ أُولَئِكَ الشُّرَكَاءُ ؟ فَقِيلَ : الْجِنُّ . وَأَمَّا وَجْهُ الْقِرَاءَةِ بِالْجَرِّ فَعَلَى الْإِضَافَةِ الَّتِي هِيَ لِلتَّبْيِينِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الشِّرْكَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :
فَالْأَوَّلُ : مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ حِكَايَةُ قَوْلِ مَنْ يُثْبِتُ لِلْعَالَمِ إِلَهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا فَاعِلُ الْخَيْرِ ، وَالثَّانِي فَاعِلُ الشَّرِّ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَقُولُونَ : الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ ، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : الْمُرَادُ مِنَ الْجِنِّ الْمَلَائِكَةُ ، وَإِنَّمَا حَسُنَ إِطْلَاقُ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْجِنِّ مُشْتَقٌّ مِنَ الِاسْتِتَارِ ، وَالْمَلَائِكَةُ مُسْتَتِرُونَ عَنِ الْأَعْيُنِ ، وَكَانَ يَجِبُ عَلَى هَذَا الْقَائِلِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ كَيْفَ يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِمُ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ ؟ قَوْلُهُمْ بِجَعْلِ الْمَلَائِكَةِ شُرَكَاءَ لِلَّهِ حَتَّى يَتِمَّ انْطِبَاقُ لَفْظِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى ، وَلَعَلَّهُ يُقَالُ : إِنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا يَقُولُونَ : الْمَلَائِكَةُ مَعَ أَنَّهَا بَنَاتُ اللَّهِ فَهِيَ مُدَبِّرَةٌ لِأَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ ، وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الشِّرْكُ .
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ قَوْلُ
الْحَسَنِ وَطَائِفَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ : إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْجِنَّ دَعُوا الْكُفَّارَ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ ، وَإِلَى الْقَوْلِ بِالشِّرْكِ ، فَقَبِلُوا مِنَ الْجِنِّ هَذَا الْقَوْلَ وَأَطَاعُوهُمْ ، فَصَارُوا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قَائِلِينَ : يَكُونُ الْجِنُّ شُرَكَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَأَقُولُ : الْحَقُّ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ ، وَالْقَوْلَانِ الْأَخِيرَانِ ضَعِيفَانِ جَدًّا ، أَمَّا تَفْسِيرُ هَذَا الشِّرْكِ بِقَوْلِ الْعَرَبِ : الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ ، فَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ :
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : أَنَّ هَذَا الْمَذْهَبَ قَدْ حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=100وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) فَالْقَوْلُ بِإِثْبَاتِ الْبَنَاتِ لِلَّهِ لَيْسَ إِلَّا قَوْلَ مَنْ يَقُولُ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ ، فَلَوْ فَسَّرْنَا قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=100وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ ) بِهَذَا الْمَعْنَى يَلْزَمُ مِنْهُ التَّكْرَارُ فِي الْمَوْضِعِ الْوَاحِدِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : فِي إِبْطَالِ هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ الْعَرَبَ قَالُوا : الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ ، وَإِثْبَاتُ الْوَلَدِ لِلَّهِ غَيْرٌ ، وَإِثْبَاتُ الشَّرِيكِ لَهُ غَيْرٌ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ أَنَّهُ تَعَالَى مَيَّزَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=3لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ nindex.php?page=tafseer&surano=112&ayano=4وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) [ الْإِخْلَاصِ : 3 ، 4 ] وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَيْنَ الْآخَرِ لَكَانَ هَذَا التَّفْصِيلُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَبَثًا .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْقَائِلِينَ بِيَزْدَانَ وَأَهْرِمَنْ يُصَرِّحُونَ بِإِثْبَاتِ شَرِيكٍ لِإِلَهِ الْعَالَمِ فِي تَدْبِيرِ هَذَا الْعَالَمِ ، فَصَرْفُ اللَّفْظِ عَنْهُ وَحَمْلُهُ عَلَى إِثْبَاتِ الْبَنَاتِ صَرْفٌ لِلَّفْظِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إِلَى مَجَازِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ .
وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الشِّرْكَةِ : أَنَّ الْكُفَّارَ قَبِلُوا قَوْلَ الْجِنِّ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ ، فَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ لِأَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى الْقَوْلِ بِالشِّرْكِ لَا يَجُوزُ تَسْمِيَتُهُ بِكَوْنِهِ شَرِيكًا لِلَّهِ لَا بِحَسَبِ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ وَلَا بِحَسَبِ مَجَازِهِ ، وَأَيْضًا فَلَوْ حَمَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَزِمَ وُقُوعُ التَّكْرِيرِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ ؛ لِأَنَّ
[ ص: 95 ] الرَّدَّ عَلَى عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ ، وَعَلَى عَبَدَةِ الْكَوَاكِبِ قَدْ سَبَقَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْصَاءِ ، فَثَبَتَ سُقُوطُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ ، وَظَهَرَ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي نَصَرْنَاهُ وَقَوَّيْنَاهُ .