[ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم
( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم )
قوله تعالى :( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم )
اعلم أنه تعالى لما قال في الآية الأولى :( ألا تقاتلون قوما ) [التوبة : 13] ذكر عقيبه سبعة أشياء كل واحد منها يوجب إقدامهم على القتال ، ثم إنه تعالى في هذه الآية أعاد ، وذكر في ذلك القتال خمسة أنواع من الفوائد ، كل واحد منها يعظم موقعه إذا انفرد ، فكيف بها إذا اجتمعت ؟ الأمر بالقتال
فأولها : قوله :( يعذبهم الله بأيديكم ) وفيه مباحث :
البحث الأول : أنه تعالى سمى ذلك عذابا وهو حق . فإنه تعالى يعذب الكافرين فإن شاء عجله في الدنيا ، وإن شاء أخره إلى الآخرة
البحث الثاني : أن المراد من هذا التعذيب القتل تارة ، والأسر أخرى ، واغتنام الأموال ثالثا ، فيدخل فيه كل ما ذكرناه .
فإن قالوا : أليس أنه تعالى قال :( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ) [الأنفال : 33] فكيف قال ههنا :( يعذبهم الله بأيديكم ) ؟ .
قلنا : المراد من قوله :( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ) عذاب الاستئصال ، والمراد من قوله :( يعذبهم الله بأيديكم ) عذاب القتل والحرب ، والفرق بين البابين أن عذاب الاستئصال قد يتعدى إلى غير المذنب ، وإن كان في حقه سببا لمزيد الثواب ، أما عذاب القتل فالظاهر أنه يبقى مقصورا على المذنب .
البحث الثالث : احتج أصحابنا على قولهم بأن بقوله :( فعل العبد مخلوق لله تعالى يعذبهم الله بأيديكم ) فإن المراد من هذا التعذيب القتل والأسر ، وظاهر النص يدل على أن ذلك القتل والأسر فعل الله تعالى ، إلا أنه تعالى يدخله في الوجود على أيدي العباد ، وهو صريح قولنا ومذهبنا .
أجاب الجبائي عنه فقال : لو جاز أن يقال : إنه تعالى يعذب الكفار بأيدي المؤمنين لجاز أن يقال : إنه يعذب المؤمنين بأيدي الكافرين ، ولجاز أن يقال : إنه يكذب أنبياءه على ألسنة الكفار ، ويلعن المؤمنين على ألسنتهم ؛ لأنه تعالى خالق لذلك ، فلما لم يجز [ ص: 4 ] ذلك عند المجبرة ، علم أنه تعالى لم يخلق أعمال العباد ، وإنما نسب ما ذكرناه إلى نفسه على سبيل التوسع من حيث إنه حصل بأمره وألطافه ، كما يضيف جميع الطاعات إليه بهذا التفسير .
وأجاب أصحابنا عنه فقالوا : أما الذي ألزمتموه علينا فالأمر كذلك إلا أنا لا نقوله باللسان ، كما أنا نعلم أنه تعالى هو الخالق لجميع الأجسام ، ثم إنا لا نقول : يا خالق الأبوال والعذرات ، ويا مكون الخنافس والديدان ، فكذا ههنا . وأيضا أنا توافقنا على أن الزنا واللواط وسائر القبائح إنما حصلت بأقدار الله تعالى وتيسيره ، ثم لا يجوز أن يقال : يا مسهل الزنا واللواط ، ويا دافع الموانع عنها ، فكذا هنا ، أما قوله : إن المراد إذن الأقدار فنقول : هذا صرف للكلام عن ظاهره ، وذلك لا يجوز إلا لدليل قاهر ، والدليل القاهر من جانبنا ههنا ، فإن الفعل لا يصدر إلا عند الداعية الحاصلة ، وحصول تلك الداعية ليس إلا من الله تعالى .
وثانيها : قوله تعالى :( ويخزهم ) معناه : ما ينزل بهم من الذل والهوان حيث شاهدوا أنفسهم مقهورين في أيدي المؤمنين ذليلين مهينين . قال الواحدي : قوله :( ويخزهم ) أي : بعد قتلكم إياهم ، وهذا يدل على أن هذا الإخزاء إنما وقع بهم في الآخرة ، وهذا ضعيف لما بينا أن الإخزاء واقع في الدنيا .
وثالثها : قوله تعالى :( وينصركم عليهم ) والمعنى أنه لما حصل الخزي لهم بسبب كونهم مقهورين فقد حصل النصر للمسلمين بسبب كونهم قاهرين .
فإن قالوا : لما كان حصول ذلك الخزي مستلزما لحصول هذا النصر ، كان إفراده بالذكر عبثا ، فنقول : ليس الأمر كذلك ؛ لأنه من المحتمل أن يحصل الخزي لهم من جهة المؤمنين ، إلا أن المؤمنين يحصل لهم آفة بسبب آخر ، فلما قال :( وينصركم عليهم ) دل على أنهم ينتفعون بهذا النصر والفتح والظفر .
ورابعها : قوله :( ويشف صدور قوم مؤمنين ) وقد ذكرنا أن خزاعة أسلموا ، فأعانت قريش بني بكر عليهم حتى نكلوا بهم ، فشفى الله صدورهم من بني بكر ، ومن المعلوم أن من طال تأذيه من خصمه ، ثم مكنه الله منه على أحسن الوجوه فإنه يعظم سروره به ، ويصير ذلك سببا لقوة النفس ، وثبات العزيمة .
وخامسها : قوله :( ويذهب غيظ قلوبهم ) .
ولقائل أن يقول : قوله :( ويشف صدور قوم مؤمنين ) معناه أنه يشفي من ألم الغيظ ، وهذا هو عين إذهاب الغيظ ، فكان قوله :( ويذهب غيظ قلوبهم ) تكرارا .
والجواب : أنه تعالى وعدهم بحصول هذا الفتح فكانوا في زحمة الانتظار ، كما قيل : الانتظار الموت الأحمر ، فشفى صدورهم من زحمة الانتظار ، وعلى هذا الوجه يظهر الفرق بين قوله :( ويشف صدور قوم مؤمنين ) وبين قوله :( ويذهب غيظ قلوبهم ) فهذه هي المنافع الخمسة التي ذكرها الله تعالى في هذا القتال ، وكلها ترجع إلى تسكين الدواعي الناشئة من القوة الغضبية ، وهي التشفي ودرك الثأر وإزالة الغيظ ، ولم يذكر تعالى فيها وجدان الأموال والفوز بالمطاعم والمشارب ؛ وذلك لأن العرب قوم جبلوا على الحمية والأنفة ، فرغبهم في هذه المعاني لكنها لائقة بطباعهم ، بقي ههنا مباحث :
البحث الأول : أن هذه الأوصاف مناسبة لفتح مكة ؛ لأن الذي جرى في تلك الواقعة مشاكل لهذه الأحوال ، ولهذا المعنى جاز أن يقال : الآية واردة فيه .
البحث الثاني : الآية دالة على المعجزة ؛ لأنه تعالى أخبر عن حصول هذه الأحوال ، وقد وقعت موافقة لهذه الأخبار فيكون ذلك إخبارا عن الغيب ، . والأخبار عن الغيب معجز
[ ص: 5 ] البحث الثالث : هذه الآية تدل على ؛ لأنها تدل على أن قلوبهم كانت مملوءة من الغضب ، ومن الحمية لأجل الدين ، ومن الرغبة الشديدة في علو دين الإسلام ، وهذه الأحوال لا تحصل إلا في قلوب المؤمنين . كون الصحابة مؤمنين في علم الله تعالى إيمانا حقيقيا
واعلم أن وصف الله لهم بذلك لا ينفي كونهم موصوفين بالرحمة والرأفة ، فإنه تعالى قال في صفتهم :( أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ) [المائدة : 54] وقال أيضا :( أشداء على الكفار رحماء بينهم ) [الفتح : 29] .
ثم قال :( ويتوب الله على من يشاء ) قال الفراء والزجاج : هذا مذكور على سبيل الاستئناف ، ولا يمكن أن يكون جوابا لقوله :( قاتلوهم ) لأن قوله :( ويتوب الله على من يشاء ) لا يمكن جعله جزاء لمقاتلتهم مع الكفار ، قالوا : ونظيره :( فإن يشأ الله يختم على قلبك ) [الشورى : 24] وتم الكلام ههنا ، ثم استأنف فقال :( ويمح الله الباطل ) [الشورى : 24] ومن الناس من قال : يمكن جعل هذه التوبة جزاء لتلك المقاتلة ، وبيانه من وجوه :
الأول : أنه تعالى لما أمرهم بالمقاتلة ، فربما شق ذلك على بعضهم على ما ذهب إليه الأصم ، فإذا أقدموا على المقاتلة صار ذلك العمل جاريا مجرى التوبة عن تلك الكراهية .
الثاني : أن حصول النصرة والظفر إنعام عظيم ، والعبد إذا شاهد توالي نعم الله لم يبعد أن يصير ذلك داعيا له إلى التوبة من جميع الذنوب .
الثالث : أنه إذا حصل النصر والظفر والفتح ، وكثرت الأموال والنعم ، وكانت لذاته تطلب بالطريق الحرام ، فإن عند حصول المال والجاه يمكن تحصيلها بطريق حلال ، فيصير كثرة المال والجاه داعيا إلى التوبة من هذه الوجوه .
الرابع : قال بعضهم : إن النفس شديدة الميل إلى الدنيا ولذاتها ، فإذا انفتحت أبواب الدنيا على الإنسان ، وأراد الله به خيرا عرف أن لذاتها حقيرة يسيرة ، فحينئذ تصير الدنيا حقيرة في عينه ، فيصير ذلك سببا لانقباض النفس عن الدنيا ، وهذا هو أحد الوجوه المذكورة في تفسير قوله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام :( وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ) [ص : 35 ] يعني : أن بعد حصول هذا الملك لا يبقى للنفس اشتغال بطلب الدنيا ، ثم يعرف أن عند حصول هذا الملك الذي هو أعظم الممالك لا حاصل للدنيا ، ولا فائدة في لذاتها وشهواتها ، فحينئذ يعرض القلب عن الدنيا ، ولا يقيم لها وزنا ، فثبت أن الخمسة المذكورة ، وتلك المنافع حصولها يوجب التوبة ، فكانت التوبة متعلقة بتلك المقاتلة ، وإنما قال :( حصول المقاتلة يفضي إلى المنافع على من يشاء ) ؛ لأن وجدان الدنيا ، وانفتاح أبوابها على الإنسان قد يصير سببا لانقباض القلب عن الدنيا ، وذلك في حق من أراد به الخير ، وقد يصير سببا لاستغراق الإنسان فيها ، وتهالكه عليها ، وانقطاعه بسببها عن سبيل الله ، فلما اختلف الأمر على الوجه الذي ذكرناه قال :( ويتوب الله على من يشاء ) .
ثم قال :( والله عليم ) أي : بكل ما يعمل ، ويفعل في ملكه وملكوته( حكيم ) مصيب في أحكامه وأفعاله .