( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين )
[ ص: 7 ] قوله تعالى :( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين )
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى بدأ السورة بذكر ، وبالغ في إيجاب ذلك ، وذكر من أنواع فضائحهم وقبائحهم ما يوجب تلك البراءة ، ثم إنه تعالى حكى عنهم شبها احتجوا بها في أن هذه البراءة غير جائزة ، وأنه يجب أن تكون المخالطة والمناصرة حاصلة ، فأولها ما ذكره في هذه الآية ، وذلك أنهم موصوفون بصفات حميدة وخصال مرضية ، وهي توجب مخالطتهم ومعاونتهم ومناصرتهم ، ومن جملة تلك الصفات كونهم عامرين البراءة عن الكفار للمسجد الحرام ، قال رضي الله عنهما : لما أسر ابن عباس العباس يوم بدر ، أقبل عليه المسلمون فعيروه بكفره بالله وقطيعة الرحم ، وأغلظ له علي ، وقال : ألكم محاسن ؟ فقال : نعمر المسجد الحرام ، ونحجب الكعبة ، ونسقي الحاج ، ونفك العاني ، فأنزل الله تعالى ردا على العباس ( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ) .
المسألة الثانية : قسمان : إما بلزومها وكثرة إتيانها يقال : فلان يعمر مجلس فلان إذا كثر غشيانه إياه ، وإما بالعمارة المعروفة في البناء ، فإن كان المراد هو الثاني ، كان المعنى أنه عمارة المساجد ، وإنما لم يجز له ذلك ؛ لأن المسجد موضع العبادة فيجب أن يكون معظما ، والكافر يهينه ولا يعظمه ، وأيضا ليس للكافر أن يقدم على حرمة المساجد ؛ لقوله تعالى :( الكافر نجس في الحكم إنما المشركون نجس ) [التوبة : 28] ؛ لقوله تعالى :( وتطهير المساجد واجب أن طهرا بيتي للطائفين ) [البقرة : 125] وأيضا الكافر لا يحترز من النجاسات ، فدخوله في المسجد تلويث للمسجد ، وذلك قد يؤدي إلى فساد عبادة المسلمين ، وأيضا إقدامه على مرمة المسجد يجري مجرى الإنعام على المسلمين ، ولا يجوز أن يصير الكافر صاحب المنة على المسلمين .
المسألة الثالثة : قرأ ابن كثير وأبو عمرو ( أن يعمروا مسجد الله ) على الواحد ، والباقون( مساجد الله ) على الجمع ، حجة ابن كثير وأبي عمرو قوله : عمارة المسجد الحرام ، وحجة من قرأ على لفظ الجمع وجوه :
الأول : أن يراد المسجد الحرام ، وإنما قيل : مساجد ؛ لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها ، فعامره كعامر جميع المساجد .
والثاني : أن يقال :( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ) معناه : ما كان للمشركين أن يعمروا شيئا من مساجد الله ، وإذا كان الأمر كذلك ، فأولى أن لا يمكنوا من عمارة المسجد الحرام الذي هو أشرف المساجد وأعظمها .
الثالث : قال الفراء : العرب قد يضعون الواحد مكان الجمع ، والجمع مكان الواحد ، أما وضع الواحد مكان الجمع ففي قولهم : فلان كثير الدرهم ، وأما وضع الجمع مكان الواحد ففي قولهم : فلان يجالس الملوك مع أنه لا يجلس إلا مع ملك واحد .
الرابع : أن المسجد موضع السجود ، فكل بقعة من المسجد الحرام فهي مسجد .
المسألة الرابعة : قال الواحدي : دلت الآية على أن ، ولو أوصى بها لم تقبل وصيته ، ويمنع عن دخول المساجد ، وإن دخل بغير إذن مسلم استحق التعزير ، وإن دخل بإذن لم يعزر ، والأولى تعظيم المساجد ، ومنعهم منها ، وقد أنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد الكفار ممنوعون من عمارة مسجد من مساجد المسلمين ثقيف [ ص: 8 ] في المسجد ، وهم كفار ، وشد ثمامة بن أثال الحنفي في سارية من سواري المسجد الحرام وهو كافر .
أما شاهدين على أنفسهم بالكفر ) قال قوله تعالى :( الزجاج : قوله :( شاهدين ) حال ، والمعنى ما كان لهم أن يعمروا المساجد حال كونهم شاهدين على أنفسهم بالكفر ، وذكروا في تفسير هذه الشهادة وجوها :
الأول : وهو الأصح أنهم أقروا على أنفسهم بعبادة الأوثان ، وتكذيب القرآن ، وإنكار نبوة محمد عليه الصلاة والسلام ، وكل ذلك كفر ، فمن يشهد على نفسه بكل هذه الأشياء فقد شهد على نفسه بما هو كفر في نفس الأمر ، وليس المراد أنهم شهدوا على أنفسهم بأنهم كافرون .
الثاني : قال السدي : شهادتهم على أنفسهم بالكفر ، هو أن النصراني إذا قيل له : من أنت ؟ فيقول : نصراني ، واليهودي يقول : يهودي ، وعابد الوثن يقول : أنا عابد الوثن ، وهذا الوجه إنما يتقرر بما ذكرناه في الوجه الأول .
الثالث : أن الغلاة منهم كانوا يقولون : كفرنا بدين محمد ، وبالقرآن ، فلعل المراد ذلك .
الرابع : أنهم كانوا يطوفون عراة يقولون : لا نطوف عليها بثياب عصينا الله فيها ، وكلما طافوا شوطا سجدوا للأصنام ، فهذا هو شهادتهم على أنفسهم بالشرك .
الخامس : أنهم كانوا يقولون : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك .
السادس : نقل عن : أنه قال : المراد أنهم يشهدون على الرسول بالكفر ، قال : وإنما جاز هذا التفسير ؛ لقوله تعالى :( ابن عباس لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) [التوبة : 128] قال القاضي : هذا الوجه عدول عن الحقيقة ، وإنما يجوز المصير إليه لو تعذر إجراء اللفظ على حقيقته ، أما لما بينا أن ذلك جائز لم يجز المصير إلى هذا المجاز . وأقول : لو قرأ أحد من السلف( شاهدين على أنفسهم بالكفر ) من قولك : زيد نفيس وعمرو أنفس منه ، لصح هذا الوجه من عدول فيه عن الظاهر .
ثم قال :( أولئك حبطت أعمالهم ) والمراد منه : ما هو الفصل الحق في هذا الكتاب ، وهو أنه إن كان قد صدر عنهم عمل من أعمال البر ، مثل إكرام الوالدين ، وبناء الرباطات ، وإطعام الجائع ، وإكرام الضيف ، فكل ذلك باطل ؛ لأن عقاب كفرهم زائد على ثواب هذه الأشياء ، فلا يبقى لشيء منها أثر في استحقاق الثواب والتعظيم مع الكفر ، وأما الكلام في الإحباط فقد تقدم في هذا الكتاب مرارا فلا نعيده .
ثم قال :( وفي النار هم خالدون ) وهو إشارة إلى كونهم مخلدين في النار ، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن لا يبقى مخلدا في النار من وجهين : الفاسق من أهل الصلاة
الأول : أن قوله :( وفي النار هم خالدون ) يفيد الحصر ، أي : هم فيها خالدون لا غيرهم ، ولما كان هذا الكلام واردا في حق الكفار ثبت أن الخلود لا يحصل إلا للكافر .
الثاني : أنه تعالى جعل ، ولو كان هذا الحكم ثابتا لغير الله لما صح تهديد الكافر به .
الخلود في النار جزاء للكفار على كفرهم