ثم إنه تعالى لما بين أن ، بين أن المشتغل بهذا العمل يجب أن يكون موصوفا بصفات أربعة : الكافر ليس له أن يشتغل بعمارة المسجد
الصفة الأولى : قوله :( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر ) وإنما قلنا : إنه لا بد من الإيمان بالله ؛ لأن ، فما لم يكن مؤمنا بالله ، امتنع أن يبني موضعا يعبد الله فيه ، وإنما قلنا : إنه لا بد من أن يكون مؤمنا بالله واليوم الآخر ؛ لأن الاشتغال بعبادة الله تعالى إنما تفيد في القيامة ، فمن أنكر القيامة لم يعبد الله ، ومن لم يعبد الله لم يبن بناء لعبادة الله تعالى . المسجد عبارة عن الموضع الذي يعبد الله فيه
فإن قيل : لم لم يذكر الإيمان برسول الله ؟
[ ص: 9 ] قلنا : فيه وجوه :
الأول : أن المشركين كانوا يقولون : إن محمدا إنما ادعى رسالة الله طلبا للرياسة والملك ، فههنا ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر ، وترك النبوة كأنه يقول : مطلوبي من تبليغ الرسالة ليس إلا الإيمان بالمبدأ والمعاد ، فذكر المقصود الأصلي ، وحذف ذكر النبوة تنبيها للكفار على أنه لا مطلوب له من الرسالة إلا هذا القدر .
الثاني : أنه لما ذكر الصلاة ، والصلاة لا تتم إلا بالأذان والإقامة والتشهد ، وهذه الأشياء مشتملة على ذكر النبوة كان ذلك كافيا .
الثالث : أنه ذكر الصلاة ، والمفرد المحلى بالألف واللام ينصرف إلى المعهود السابق ، ثم المعهود السابق من الصلاة من المسلمين ليس إلا الأعمال التي كان أتى بها محمد صلى الله عليه وسلم ، فكان ذكر الصلاة دليلا على النبوة من هذا الوجه .
الصفة الثانية : وأقام الصلاة ) والسبب فيه أن المقصود الأعظم من بناء المساجد إقامة الصلوات ، فالإنسان ما لم يكن مقرا بوجوب الصلوات امتنع أن يقدم على بناء المساجد . قوله :(
الصفة الثالثة : قوله :( وآتى المال ) .
واعلم أن اعتبار إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة في عمارة المسجد كأنه يدل على أن المراد من عمارة المسجد الحضور فيه ؛ وذلك لأن الإنسان إذا كان مقيما للصلاة فإنه يحضر في المسجد ، فتحصل عمارة المسجد به ، وإذا كان مؤتيا للزكاة فإنه يحضر في المسجد طوائف الفقراء والمساكين لطلب أخذ الزكاة ، فتحصل عمارة المسجد به ، وأما إذا حملنا العمارة على مصالح البناء فإيتاء الزكاة معتبر في هذا الباب أيضا ؛ لأن إيتاء الزكاة واجب ، وبناء المسجد نافلة ، والإنسان ما لم يفرغ عن الواجب لا يشتغل بالنافلة ، والظاهر أن الإنسان ما لم يكن مؤديا للزكاة لم يشتغل ببناء المساجد .
والصفة الرابعة : قوله :( ولم يخش إلا الله ) وفيه وجوه :
الأول : أن أبا بكر رضي الله عنه بنى في أول الإسلام على باب داره مسجدا ، وكان يصلي فيه ، ويقرأ القرآن ، والكفار يؤذونه بسببه ، فيحتمل أن يكون المراد هو تلك الحالة ، يعني : أنه وإن خاف الناس من بناء المسجد إلا أنه لا يلتفت إليهم ، ولا يخشاهم ، ولكنه يبني المسجد للخوف من الله تعالى .
الثاني : يحتمل أن يكون المراد منه أن يبني المسجد لا لأجل الرياء والسمعة ، وأن يقال : إن فلانا يبني مسجدا ، ولكنه يبنيه لمجرد طلب رضوان الله تعالى ، ولمجرد تقوية دين الله .
ولم يخش إلا الله ) والمؤمن قد يخاف الظلمة والمفسدين ؟ فإن قيل : كيف قال :(
قلنا : المراد من هذه الخشية الخوف والتقوى في باب الدين ، وأن لا يختار على رضا الله رضا غيره .
اعلم أنه تعالى قال :( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله ) أي : من كان موصوفا بهذه الصفات الأربعة ، وكلمة( إنما ) تفيد الحصر ، وفيه تنبيه على أن ، فيدخل فيه فضول الحديث ، وإصلاح مهمات الدنيا ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " المسجد يجب صونه عن غير العبادة يأتي في آخر الزمان أناس من أمتي يأتون المساجد ، يقعدون فيها حلقا ذكرهم الدنيا وحب الدنيا ، لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة " وفي الحديث : " الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش " قال عليه الصلاة والسلام : وعنه عليه الصلاة والسلام : " قال الله تعالى : "إن بيوتي في الأرض المساجد ، وإن زواري فيها عمارها طوبى لعبد تطهر في بيته ، ثم زارني في بيتي ، فحق على المزور أن يكرم زائره" " وعنه عليه الصلاة والسلام : " من ألف المسجد ألفه الله تعالى إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد فاشهدوا له بالإيمان " وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة [ ص: 10 ] وحملة العرش يستغفرون له ما دام في المسجد ضوؤه " وهذه الأحاديث نقلها صاحب "الكشاف" .
ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الأوصاف قال :( فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ) وفيه وجوه :
الأول : قال المفسرون : (عسى) من الله واجب ؛ لكونه متعاليا عن الشك والتردد .
الثاني : قال أبو مسلم :( عسى ) ههنا راجع إلى العباد ، وهو يفيد الرجاء ، فكان المعنى إن الذين يأتون بهذه الطاعات إنما يأتون بها على رجاء الفوز بالاهتداء ؛ لقوله تعالى :( يدعون ربهم خوفا وطمعا ) [السجدة : 16] والتحقيق فيه أن العبد عند الإتيان بهذه الأعمال لا يقطع على الفوز بالثواب ؛ لأنه يجوز على نفسه أنه قد أخل بقيد من القيود المعتبرة في حصول القبول .
والثالث وهو أحسن الوجوه : ما ذكره صاحب "الكشاف" وهو أن المراد منه تبعيد المشركين عن مواقف الاهتداء ، وحسم أطماعهم في الانتفاع بأعمالهم التي استعظموها وافتخروا بها ، فإنه تعالى بين أن الذين آمنوا وضموا إلى إيمانهم العمل بالشرائع وضموا إليها الخشية من الله ، فهؤلاء صار حصول الاهتداء لهم دائرا بين -لعل وعسى- فما بال هؤلاء المشركين يقطعون بأنهم مهتدون ، ويجزمون بفوزهم بالخير من عند الله تعالى ، وفي هذا الكلام ونحوه لطف بالمؤمنين في . ترجيح الخشية على الرجاء