والقول الثاني : أن المال الكثير إذا جمع فهو الكنز المذموم ، سواء أديت زكاته أو لم تؤد ، واحتج الذاهبون إلى القول الأول على صحة قولهم بأمور :
الأول : عموم قوله تعالى :( لها ما كسبت ) [البقرة : 286] فإن ذلك يدل على أن كل ما اكتسبه الإنسان فهو حقه ، وكذا قوله تعالى :( ولا يسألكم أموالكم ) [محمد : 36] وقوله عليه الصلاة والسلام : " " وقوله عليه السلام : " نعم المال الصالح للرجل الصالح كل امرئ أحق بكسبه " وقوله عليه السلام : " " وإن كان ظاهرا . ما أدي زكاته فليس بكنز وإن كان باطنا ، وما بلغ أن يزكى ولم يزك فهو كنز
الثاني : أنه كان في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام جماعة كعثمان ، وكان عليه السلام يعدهم من أكابر المؤمنين . وعبد الرحمن بن عوف
الثالث : أنه عليه السلام ندب إلى ، ولو كان جمع المال محرما لكان عليه السلام أقر المريض بالتصدق بكله ، بل كان يأمر الصحيح في حال صحته بذلك ، واحتج الذاهبون إلى القول الثاني بوجوه : إخراج الثلث أو أقل في المرض
الأول : عموم هذه الآية ، ولا شك أن ظاهرها دليل على المنع من جمع المال ، فالمصير إلى أن الجمع مباح بعد إخراج الزكاة ترك لظاهر هذه الآية ، فلا يصار إليه إلا بدليل منفصل .
والثاني : ما روى سالم بن الجعد أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ، وقال عليه السلام : "تبا للذهب ، تبا للفضة" قالها ثلاثا ، فقالوا له : أي مال نتخذ ؟ قال : لسانا ذاكرا ، وقلبا خاشعا ، وزوجة تعين أحدكم على دينه ، "من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها وتوفي رجل فوجد في مئزره دينار ، فقال عليه السلام : "كية" وتوفي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال عليه الصلاة والسلام : "كيتان" .
والثالث : ما روي عن الصحابة في هذا الباب فقال علي : كل مال زاد على أربعة آلاف فهو كنز أديت منه الزكاة أو لم تؤد ، وعن : كل صفراء أو بيضاء أوكى عليها صاحبها فهي كنز ، وعن أبي هريرة أنه كان إذا رأى أن العير تقدم بالمال صعد على موضع مرتفع ، ويقول : جاءت القطار تحمل النار ، وبشر الكنازين بكي في الجباه والجنوب والظهور والبطون . أبي الدرداء
والرابع : أنه تعالى إنما خلق الأموال ليتوسل بها إلى دفع الحاجات ، فإذا حصل للإنسان قدر ما يدفع به حاجته ، ثم جمع الأموال الزائدة عليه فهو لا ينتفع بها لكونها زائدة على قدر حاجته [ ص: 37 ] ومنعها من الغير الذي يمكنه أن يدفع حاجته بها ، فكان هذا الإنسان بهذا المنع مانعا من ظهور حكمته ، ومانعا من وصول إحسان الله إلى عبيده .
واعلم أن الطريق الحق أن يقال : الأولى أن لا يجمع الرجل الطالب للدين المال الكثير ، إلا أنه لم يمنع عنه في ظاهر الشرع ، فالأول محمول على التقوى ، والثاني على ظاهر الفتوى ، أما بيان أن الأولى فبوجوه : الاحتراز عن طلب المال الكثير
الوجه الأول : أن الإنسان إذا أحب شيئا فكلما كان وصوله إليه أكثر ، والتذاذه بوجدانه أكثر ، كان حبه له أشد وميله أقوى ، فالإنسان إذا كان فقيرا فكأنه لم يذق لذة الانتفاع بالمال ، وكأنه غافل عن تلك اللذة ، فإذا ملك القليل من المال وجد بقدره اللذة ، فصار ميله أشد ، فكلما صارت أمواله أزيد ، كان التذاذه به أكثر ، وكان حرصه في طلبه وميله إلى تحصيله أشد ، فثبت أن تكثير المال سبب لتكثير الحرص في الطلب ، فالحرص متعب للروح والنفس والقلب وضرره شديد ، فوجب على العاقل أن يحترز عن الإضرار بالنفس ، وأيضا قد بينا أنه كلما كان المال أكثر كان الحرص أشد ، فلو قدرنا أنه كان ينتهي طلب المال إلى حد ينقطع عنده الطلب ويزول الحرص ، لقد كان الإنسان يسعى في الوصول إلى ذلك الحد ، أما لما ثبت بالدليل أنه كلما كان تملك الأموال أكثر كان الضرر الناشئ من الحرص أكبر ، وأنه لا نهاية لهذا الضرر ولهذا الطلب ، فوجب على الإنسان أن يتركه في أول الأمر كما قال :
رأى الأمر يفضي إلى آخر فيصير آخره أولا
والوجه الثاني : أن كسب المال شاق شديد ، وحفظه بعد حصوله أشد وأشق وأصعب ، فيبقى الإنسان طول عمره تارة في طلب التحصيل ، وأخرى في تعب الحفظ ، ثم إنه لا ينتفع بها إلا بالقليل ، وبالآخر يتركها مع الحسرات والزفرات ، وذلك هو الخسران المبين .
والوجه الثالث : أن ، كما قال تعالى :( كثرة المال والجاه تورث الطغيان إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ) [العلق : 6 - 7] والطغيان يمنع من وصول العبد إلى مقام رضوان الرحمن ، ويوقعه في الخسران والخذلان .
الوجه الرابع : أنه تعالى أوجب الزكاة ، وذلك سعي في تنقيص المال ، ولو كان تكثيره فضيلة لما سعى الشرع في تنقيصه .
فإن قيل : " اليد العليا خير من اليد السفلى ؟ لم قال عليه السلام : "
قلنا : اليد العليا إنما أفادته صفة الخيرية ؛ لأنه أعطى ذلك القليل ، فبسبب أنه حصل في ماله ذلك النقصان القليل حصلت له الخيرية ، وبسبب أنه حصل للفقير تلك الزيادة القليلة حصلت المرجوحية .