( يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل )
[ ص: 48 ] قوله تعالى :( ياأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ) في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما شرح معايب هؤلاء الكفار وفضائحهم ، عاد إلى وقال :( الترغيب في مقاتلتهم ياأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ) وتقرير الكلام أنه تعالى ذكر في الآيات السابقة أسبابا كثيرة موجبة لقتالهم ، وذكر منافع كثيرة تحصل من مقاتلتهم كقوله :( يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ) [التوبة : 14] وذكر أقوالهم المنكرة ، وأعمالهم القبيحة في الدين والدنيا ، وعند هذا لا يبقى للإنسان مانع من قتالهم إلا مجرد أن يخاف القتل ويحب الحياة ، فبين تعالى أن هذا المانع خسيس ؛ لأن ، وترك الخير الكثير ، لأجل الشر القليل جهل وسفه . سعادة الدنيا بالنسبة إلى سعادة الآخرة كالقطرة في البحر
المسألة الثانية : المروي عن أن هذه الآية نزلت في ابن عباس ، وذلك لأنه عليه السلام لما رجع من غزوة تبوك الطائف أقام بالمدينة وأمر بجهاد الروم ، وكان ذلك الوقت زمان شدة الحر ، وطابت ثمار المدينة وأينعت ، واستعظموا غزو الروم وهابوه ، فنزلت هذه الآية ، قال المحققون : وإنما استثقل الناس ذلك لوجوه :
أحدها : شدة الزمان في الصيف والقحط .
وثانيها : بعد المسافة والحاجة إلى الاستعداد الكثير الزائد على ما جرت به العادة في سائر الغزوات .
وثالثها : إدراك الثمار بالمدينة في ذلك الوقت .
ورابعها : شدة الحر في ذلك الوقت .
وخامسها : مهابة عسكر الروم فهذه الجهات الكثيرة اجتمعت فاقتضت تثاقل الناس عن ذلك الغزو ، والله أعلم .
المسألة الثالثة : يقال : استنفر الإمام الناس لجهاد العدو فنفروا ينفرون نفرا ونفورا ، إذا حثهم ودعاهم إليه ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " " وأصل النفر الخروج إلى مكان لأمر واجب ، واسم ذلك القوم الذين يخرجون النفير ، ومنه قولهم : فلان لا في العير ، ولا في النفير ، وقوله :( إذا استنفرتم فانفروا اثاقلتم إلى الأرض ) أصله تثاقلتم ، وبه قرأ ومعناه : تباطأتم ونظيره قوله :( الأعمش فادارأتم ) [البقرة : 72] وقوله :( اطيرنا بك ) [النمل : 47] قال صاحب "الكشاف" : وضمن معنى الميل والإخلاد فعدي بإلى ، والمعنى ملتم إلى الدنيا وشهواتها ، وكرهتم مشاق السفر ومتاعبه ، ونظيره :( أخلد إلى الأرض واتبع هواه ) [الأعراف : 176] وإن كان في الظاهر استفهاما إلا أن المراد منه المبالغة في الإنكار .