( إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون )
قوله تعالى :( إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون )
اعلم أن هذا نوع آخر من كيد المنافقين ومن خبث بواطنهم ، والمعنى : إن تصبك في بعض الغزوات حسنة ؛ سواء كان ظفرا ، أو كان غنيمة ، أو كان انقيادا لبعض ملوك الأطراف ، يسؤهم ذلك ، وإن تصبك مصيبة ؛ من نكبة وشدة ومصيبة ومكروه يفرحوا به ، ويقولوا : قد أخذنا أمرنا الذي نحن مشهورون به ، وهو الحذر والتيقظ والعمل بالحزم ،( من قبل ) . أي : قبل ما وقع ، وتولوا عن مقام التحدث بذلك ، والاجتماع له إلى أهاليهم ، وهم فرحون مسرورون .
ونقل عن أن الحسنة في يوم ابن عباس بدر ، والمصيبة في يوم أحد . فإن ثبت بخبر أن هذا هو المراد وجب المصير إليه ، وإلا فالواجب حمله على كل حسنة ، وعلى كل مصيبة ؛ إذ المعلوم من حال المنافقين أنهم في كل حسنة وعند كل مصيبة بالوصف الذي ذكره الله ههنا .
ثم قال تعالى :( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ) وفيه أقوال :
القول الأول : إن المعنى أنه لن يصيبنا خير ولا شر ، ولا خوف ولا رجاء ، ولا شدة ولا رخاء ، إلا وهو [ ص: 69 ] مقدر علينا ، مكتوب عند الله ، وكونه مكتوبا عند الله يدل على كونه معلوما عند الله مقضيا به عند الله ، فإن ما سواه ممكن ، والممكن لا يترجح إلا بترجيح الواجب ، والممكنات بأسرها منتهية إلى قضائه وقدره .
واعلم أن أصحابنا يتمسكون بهذه الآية في أن ، وأن تغير الشيء عما قضى الله به محال ، وتقرير هذا الكلام من وجوه : قضاء الله شامل لكل المحدثات
أحدها : أن الموجود إما واجب وإما ممكن ، والممكن يمتنع أن يترجح أحد طرفيه على الآخر لنفسه ؛ فوجب انتهاؤه إلى ترجيح الواجب لذاته ، وما سواه فواجب بإيجاده وتأثيره وتكوينه . ولهذا المعنى قال النبي عليه السلام : " " . جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة
وثانيها : أن ، فلو وقع الأمر بخلافها لزم انقلاب العلم جهلا والحكم الصدق كذبا ، وكل ذلك محال ، وقد أطنبنا في شرح هذه المناظرة في تفسير قوله تعالى :( الله تعالى لما كتب جميع الأحوال في اللوح المحفوظ فقد علمها وحكم بها إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) [ البقرة : 6 ] .
فإن قيل : إنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام ؛ تسلية للرسول في فرحهم بحزنه ومكارهه ، فأي تعلق لهذا المذهب بذلك ؟
قلنا : السبب فيه قوله صلى الله عليه وسلم : " من علم سر الله في القدر هانت عليه المصائب " فإنه إذا علم الإنسان أن الذي وقع امتنع أن لا يقع ، زالت المنازعة عن النفس ، وحصل الرضا به .
القول الثاني : في تفسير هذه الآية أن يكون المعنى :( لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ) . أي : في عاقبة أمرنا من الظفر بالعدو والاستيلاء عليهم ، والمقصود أن يظهر للمنافقين أن أحوال الرسول والمسلمين وإن كانت مختلفة في السرور والغم ، إلا أن في العاقبة الدولة لهم ، والفتح والنصر والظفر من جانبهم ؛ فيكون ذلك اغتياظا للمنافقين ، وردا عليهم في ذلك الفرح .
والقول الثالث : قال الزجاج : المعنى إذا صرنا مغلوبين صرنا مستحقين للأجر العظيم ، والثواب الكثير ، وإن صرنا غالبين صرنا مستحقين للثواب في الآخرة ، وفزنا بالمال الكثير والثناء الجميل في الدنيا ، وإذا كان الأمر كذلك ، صارت تلك المصائب والمحزنات في جنب هذا الفوز بهذه الدرجات العالية متحملة . وهذه الأقوال وإن كانت حسنة ، إلا أن الحق الصحيح هو الأول .
ثم قال تعالى :( هو مولانا ) والمراد به ما يقوله أصحابنا أنه سبحانه يحسن منه التصرف في العالم كيف شاء ، وأراد لأجل أنه مالك لهم وخالق لهم ، ولأنه لا اعتراض عليه في شيء من أفعاله ، فهذا الكلام ينطبق على ما تقدم ؛ ولذا قلنا : إنه تعالى وإن أوصل إلى بعض عبيده أنواعا من المصائب فإنه يجب الرضا بها ؛ لأنه تعالى مولاهم وهم عبيده ، فحسن منه تعالى تلك التصرفات ، بمجرد كونه مولى لهم ، ولا اعتراض لأحد عليه في شيء من أفعاله .
ثم قال تعالى :( وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) معناه : أنه وإن لم يجب عليه لأحد من العبيد شيء من الأشياء ، ولا أمر من الأمور إلا أنه مع هذا عظيم الرحمة كثير الفضل والإحسان ، فوجب أن لا يتوكل المؤمن في الأصل إلا عليه ، وأن يقطع طمعه إلا من فضله ورحمته ؛ لأن قوله :( وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) يفيد الحصر ، وهذا كالتنبيه على أن حال المنافقين بالضد من ذلك وأنهم لا يتوكلون إلا على الأسباب الدنيوية واللذات العاجلة الفانية .