ثم قال تعالى :( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اختلف الناس في المراد . فقال بعضهم : هذا راجع إلى هؤلاء الذين تابوا ، وذلك لأنهم بذلوا أموالهم للصدقة ، فأوجب الله تعالى أخذها ، وصار ذلك معتبرا في كمال توبتهم لتكون جارية في [ ص: 141 ] حقهم مجرى الكفارة ، وهذا قول الحسن ، وكان يقول : ليس المراد من هذه الآية الصدقة الواجبة ، وإنما هي الذي صدر منهم . صدقة كفارة الذنب
والقول الثاني : أن الزكوات كانت واجبة عليهم ، فلما تابوا من تخلفهم عن الغزو وحسن إسلامهم ، وبذلوا الزكاة أمر الله رسوله أن يأخذها منهم .
والقول الثالث : أن هذه الآية كلام مبتدأ ، والمقصود منها إيجاب وعليه أكثر الفقهاء إذ استدلوا بهذه الآية في إيجاب الزكوات . وقالوا في الزكاة إنها طهرة ، أما القائلون بالقول الأول : فقد احتجوا على صحة قولهم بأن الآيات لا بد وأن تكون منتظمة متناسقة ، أما لو حملناها على الزكوات الواجبة ابتداء ، لم يبق لهذه الآية تعلق بما قبلها ، ولا بما بعدها ، وصارت كلمة أجنبية ، وذلك لا يليق بكلام الله تعالى ، وأما القائلون بأن المراد منه أخذ الزكوات الواجبة ، قالوا : المناسبة حاصلة أيضا على هذا التقدير ، وذلك لأنهم لما أظهروا التوبة والندامة ، عن تخلفهم عن غزوة أخذ الزكاة من الأغنياء تبوك ، وهم أقروا بأن السبب الموجب لذلك التخلف حبهم للأموال وشدة حرصهم على صونها عن الإنفاق ، فكأنه قيل لهم إنما يظهر صحة قولكم في ادعاء هذه التوبة والندامة لو أخرجتم الزكاة الواجبة ، ولم تضايقوا فيها ؛ لأن الدعوى لا تتقرر إلا بالمعنى ، وعند الامتحان يكرم الرجل أو يهان ، فإن أدوا تلك الزكوات عن طيبة النفس ظهر كونهم صادقين في تلك التوبة والإنابة ، وإلا فهم كاذبون مزورون بهذا الطريق . لكن حمل هذه الآية على التكليف بإخراج الزكوات الواجبة مع أنه يبقى نظم هذه الآيات سليما أولى ، ومما يدل على أن المراد الصدقات الواجبة . قوله :( تطهرهم وتزكيهم بها ) والمعنى تطهرهم عن الذنب بسبب أخذ تلك الصدقات ، وهذا إنما يصح لو قلنا إنه لو لم يأخذ تلك الصدقة لحصل الذنب ، وذلك إنما يصح حصوله في الصدقات الواجبة . وأما القائلون بالقول الأول : فقالوا : إنه عليه الصلاة والسلام لما عذر أولئك التائبين وأطلقهم ، قالوا : يا رسول الله هذه أموالنا التي بسببها تخلفنا عنك فتصدق بها عنا وطهرنا واستغفر لنا ، فقال عليه الصلاة والسلام : ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلث أموالهم ، وترك الثلثين ؛ لأنه تعالى قال :( خذ من أموالهم صدقة ) ولم يقل خذ أموالهم ، وكلمة( من ) تفيد التبعيض . واعلم أن هذه الرواية لا تمنع القول الذي اخترناه كأنه قيل لهم : إنكم لما رضيتم بإخراج الصدقة التي هي غير واجبة ؛ فلأن تصيروا راضين بإخراج الواجبات أولى .