( لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم )
قوله تعالى :( لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم )
[ ص: 170 ] اعلم أنه تعالى لما استقصى في شرح أحوال غزوة تبوك ، وبين أحوال المتخلفين عنها ، وأطال القول في ذلك على الترتيب الذي لخصناه في هذا التفسير ، عاد في هذه الآية إلى شرح ما بقي من أحكامها . ومن بقية تلك الأحكام أنه قد صدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نوع زلة جارية مجرى تلك الأولى ، وصدر أيضا عن المؤمنين نوع زلة ، فذكر تعالى أنه تفضل عليهم وتاب عليهم في تلك الزلات . فقال :( لقد تاب الله على النبي ) وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : دلت الأخبار على أن هذا السفر كان شاقا شديدا على الرسول - عليه الصلاة والسلام - وعلى المؤمنين ، على ما سيجيء شرحها ، وهذا يوجب الثناء ، فكيف يليق بها قوله :( لقد تاب الله على النبي والمهاجرين ) ؟ .
والجواب من وجوه :
الأول : أنه صدر عن النبي - عليه الصلاة والسلام - شيء من باب ترك الأفضل ، وهو المشار إليه بقوله تعالى :( عفا الله عنك لم أذنت لهم ) ( التوبة : 43 ) وأيضا لما اشتد الزمان في هذه الغزوة على المؤمنين على ما سيجيء شرحها ، فربما وقع في قلبهم نوع نفرة عن تلك السفرة ، وربما وقع في خاطر بعضهم أنا لسنا نقدر على الفرار . ولست أقول عزموا عليه ، بل أقول وساوس كانت تقع في قلوبهم ، فالله تعالى بين في آخر هذه السورة أنه بفضله عفا عنها . فقال :( لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه ) .
والوجه الثاني في الجواب : أن ، إما من باب الصغائر ، وإما من باب ترك الأفضل . ثم إن النبي - عليه السلام - وسائر المؤمنين لما تحملوا مشاق هذا السفر ومتاعبه ، وصبروا على تلك الشدائد والمحن ، أخبر الله تعالى أن تحمل تلك الشدائد صار مكفرا لجميع الزلات التي صدرت عنهم في طول العمر ، وصار قائما مقام التوبة المقرونة بالإخلاص عن كلها . فلهذا السبب قال تعالى :( الإنسان طول عمره لا ينفك عن زلات وهفوات لقد تاب الله على النبي ) الآية .
والوجه الثالث في الجواب : أن الزمان لما اشتد عليهم في ذلك السفر ، وكانت الوساوس تقع في قلوبهم ، فكلما وقعت وسوسة في قلب واحد منهم تاب إلى الله منها ، وتضرع إلى الله في إزالتها عن قلبه ، فلكثرة إقدامهم على التوبة بسبب خطرات تلك الوساوس ببالهم ، قال تعالى :( لقد تاب الله على النبي ) الآية .
والوجه الرابع : لا يبعد أن يكون قد صدر عن أولئك الأقوام أنواع من المعاصي ، إلا أنه تعالى تاب عليهم وعفا عنهم لأجل أنهم تحملوا مشاق ذلك السفر ، ثم إنه تعالى ضم ذكر الرسول - عليه الصلاة والسلام - إلى ذكرهم تنبيها على عظم مراتبهم في الدين ، وأنهم قد بلغوا إلى الدرجة التي لأجلها ، ضم الرسول - عليه الصلاة والسلام - إليهم في قبول التوبة .