( وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون )
قوله تعالى :( وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون )
اعلم أن هذا نوع آخر من مخازي المنافقين ، وهو أنه كلما نزلت سورة مشتملة على ، وسمعوها تأذوا من سماعها ، ونظر بعضهم إلى بعض نظرا مخصوصا دالا على الطعن في تلك السورة والاستهزاء بها وتحقير شأنها ، ويحتمل أن لا يكون ذلك مختصا بالسورة المشتملة على فضائح المنافقين بل كانوا يستخفون بالقرآن ، فكلما سمعوا سورة استهزأوا بها وطعنوا فيها ، وأخذوا في التغامز والتضاحك على سبيل الطعن والهزء ، ثم قال بعضهم لبعض : هل يراكم من أحد ؟ أي لو رآكم من أحد ، وهذا فيه وجوه : ذكر المنافقين وشرح فضائحهم
الأول : أن ذلك النظر دال على ما في الباطن من الإنكار الشديد والنفرة التامة ، فخافوا أن يرى أحد من المسلمين ذلك النظر وتلك ، فعند ذلك قالوا :( الأحوال الدالة على النفاق والكفر هل يراكم من أحد ) أي لو رآكم أحد على هذا النظر وهذا الشكل لضركم جدا .
والثاني : أنهم كانوا إذا سمعوا تلك السورة تأذوا من سماعها ، فأرادوا الخروج من المسجد ، فقال بعضهم لبعض :( هل يراكم من أحد ) يعني إن رآكم فلا تخرجوا ، إن كان ما رآكم أحد فاخرجوا من المسجد ، لتتخلصوا عن هذا الإيذاء .
والثالث :( هل يراكم من أحد ) يمكنكم أن تقولوا نحبه ، فوجب علينا الخروج من المسجد . قال تعالى :( ثم انصرفوا ) يحتمل أن يكون المراد نفس هربهم من مكان الوحي واستماع القرآن ، ويجوز أن يراد به ، ثم انصرفوا عن استماع القرآن إلى الطعن فيه وإن ثبتوا في مكانهم .
فإن قيل : ما التفاوت بين هذه الآية وبين الآية المتقدمة وهي قوله :( وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا ) ؟ .
[ ص: 186 ] قلنا : في تلك الآية حكى عنهم أنهم ذكروا قولهم :( أيكم زادته هذه إيمانا ) وفي هذه الآية حكى عنهم أنهم اكتفوا بنظر بعضهم إلى بعض على سبيل الهزؤ ، وطلبوا الفرار .
ثم قال تعالى :( صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون ) واحتج أصحابنا به على أنه تعالى صرفهم عن الإيمان وصدهم عنه وهو صحيح فيه ، قال - رضي الله عنهما - : عن كل رشد وخير وهدى ، وقال ابن عباس الحسن : صرف الله قلوبهم وطبع عليها بكفرهم ، وقال الزجاج : أضلهم الله تعالى ، قالت المعتزلة : لو كان تعالى هو الذي صرفهم عن الإيمان فكيف قال :( أنى يصرفون ) وكيف عاقبهم على الانصراف عن الإيمان ؟ قال القاضي : ظاهر الآية يدل على أن هذا الصرف عقوبة لهم على انصرافهم ، والصرف عن الإيمان لا يكون عقوبة ؛ لأنه لو كان كذلك ، لكان كما يجوز أن يأمر أنبياءه بإقامة الحدود ، يجوز أن يأمرهم بصرف الناس عن الإيمان ، وتجويز ذلك يؤدي أن لا يوثق بما جاء به الرسول . ثم قال : هذا الصرف يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه تعالى صرف قلوبهم بما أورثهم من الغم والكيد .
الثاني : صرفهم عن الألطاف التي يختص بها من آمن واهتدى .
والجواب : أن هذه الوجوه التي ذكرها القاضي ظاهر أنها متكلفة جدا ، وأما الوجه الصحيح الذي يشهد بصحته كل عقل سليم ، هو أن الفعل يتوقف على حصول الداعي ، وإلا لزم رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح ، وهو محال ، وحصول ذلك الداعي ليس من العبد وإلا لزم التسلسل ، بل هو من الله تعالى . فالعبد إنما يقدم على الكفر إذا حصل في قلبه داعي الكفر ، وذلك الحصول من الله تعالى ، وإذا حصل ذلك الداعي انصرف ذلك القلب من جانب الإيمان إلى الكفر ، فهذا هو المراد من وهو كلام مقرر ببرهان قطعي وهو منطبق على هذا النص ، فبلغ في الوضوح إلى أعلى الغايات ، ومما بقي من مباحث الآية ما نقل عن صرف القلب أنه قال : لا تقولوا انصرفنا من الصلاة ، فإن قوما انصرفوا صرف الله قلوبهم ، لكن قولوا قد قضينا الصلاة ، وكان المقصود منه التفاؤل بترك هذه اللفظة الواردة فيما لا ينبغي ، والترغيب في تلك اللفظة الواردة في الخير ، فإنه تعالى قال :( محمد بن إسحاق فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ) ( الجمعة : 10 ) .