المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى : وصف الرسول في هذه الآية بخمسة أنواع من الصفات
الصفة الأولى : قوله :( من أنفسكم ) وفي تفسيره وجوه :
الأول : يريد أنه بشر مثلكم كقوله :( أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم ) ( يونس : 2 ) وقوله :( إنما أنا بشر مثلكم ) ( فصلت : 6 ) والمقصود أنه لو كان من جنس الملائكة لصعب الأمر بسببه على الناس ، على ما مر تقريره في سورة الأنعام .
والثاني :( من أنفسكم ) أي من العرب ، قال : ليس في العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي - عليه السلام - بسبب الجدات ، مضرها وربيعها ويمانيها ، فالمضريون والربيعيون هم العدنانية ، واليمانيون هم القحطانية ; ونظيره قوله تعالى :( ابن عباس لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ) ( آل عمران : 164 ) والمقصود منه ترغيب العرب في نصرته ، والقيام بخدمته ، كأنه قيل لهم : كل ما يحصل له من الدولة والرفعة في الدنيا فهو سبب لعزكم ولفخركم ؛ لأنه منكم ومن نسبكم .
والثالث :( من أنفسكم ) خطاب لأهل الحرم ، وذلك لأن العرب كانوا يسمون أهل الحرم أهل الله وخاصته ، وكانوا يخدمونهم ويقومون بإصلاح مهماتهم فكأنه قيل للعرب : كنتم قبل مقدمه مجدين مجتهدين في خدمة أسلافه وآبائه ، فلم تتكاسلون في خدمته مع أنه لا نسبة له في الشرف والرفعة إلى أسلافه ؟
والقول الرابع : أن المقصود من ذكر هذه الصفة التنبيه على طهارته ، كأنه قيل : هو من عشيرتكم تعرفونه بالصدق والأمانة والعفاف والصيانة ، وتعرفون كونه حريصا على دفع الآفات عنكم وإيصال الخيرات إليكم ، وإرسال من هذه حالته وصفته يكون من أعظم نعم الله عليكم . وقرئ ( من أنفسكم ) أي من أشرفكم وأفضلكم ، وقيل : هي قراءة رسول الله وفاطمة - رضي الله عنهما - . وعائشة
الصفة الثانية : قوله تعالى :( عزيز عليه ما عنتم ) اعلم أن العزيز هو الغالب الشديد ، والعزة هي الغلبة والشدة ، فإذا وصلت مشقة إلى الإنسان عرف أنه كان عاجزا عن دفعها إذ لو قدر على دفعها لما قصر في ذلك الدفع ، فحيث لم يدفعها ، علم أنه كان عاجزا عن دفعها وأنها كانت غالبة على الإنسان . فلهذا السبب إذا اشتد على الإنسان شيء قال : عز علي هذا ، وأما العنت فيقال : عنت الرجل يعنت عنتا إذا وقع في مشقة وشدة لا يمكنه الخروج منها ، ومنه قوله تعالى :( ذلك لمن خشي العنت منكم ) ( النساء : 25 ) وقوله :( ولو شاء الله لأعنتكم ) ( البقرة : 220 ) وقال الفراء : " ما " في قوله :( ما عنتم ) في موضع رفع ، والمعنى : عزيز عليه عنتكم ، أي يشق عليه مكروهكم ، وأولى المكاره بالدفع مكروه عقاب الله تعالى ، وهو إنما أرسل ليدفع هذا المكروه .
[ ص: 188 ] والصفة الثالثة : قوله :( حريص عليكم ) والحرص يمتنع أن يكون متعلقا بذواتهم ، بل المراد حريص على إيصال الخيرات إليكم في الدنيا والآخرة .
واعلم أن على هذا التقدير يكون قوله :( عزيز عليه ما عنتم ) معناه : شديدة معزته عن وصول شيء من آفات الدنيا والآخرة إليكم ، وبهذا التقدير لا يحصل التكرار . قال الفراء : الحريص الشحيح ، ومعناه : أنه شحيح عليكم أن تدخلوا النار ، وهذا بعيد ؛ لأنه يوجب الخلو عن الفائدة .
والصفة الرابعة والخامسة : قوله :( بالمؤمنين رءوف رحيم ) قال - رضي الله عنهما - : سماه الله تعالى باسمين من أسمائه ، بقي ههنا سؤالان : ابن عباس
السؤال الأول : كيف يكون كذلك ، وقد كلفهم في هذه السورة بأنواع من التكاليف الشاقة التي لا يقدر على تحملها إلا الموفق من عند الله تعالى ؟
قلنا : قد ضربنا لهذا المعنى مثل الطبيب الحاذق والأب المشفق ، والمعنى : أنه إنما فعل بهم ذلك ليتخلصوا من العقاب المؤبد ، ويفوزوا بالثواب المؤبد .
السؤال الثاني : لما قال :( عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم ) فهذا النسق يوجب أن يقال : رؤوف رحيم بالمؤمنين ، فلم ترك هذا النسق وقال :( بالمؤمنين رءوف رحيم ) ؟ .
الجواب : أن قوله :( بالمؤمنين رءوف رحيم ) يفيد الحصر بمعنى أنه لا رأفة ولا رحمة له إلا بالمؤمنين . فأما الكافرون فليس له عليهم رأفة ورحمة ، وهذا كالمتمم لقدر ما ورد في هذه السورة من التغليظ كأنه يقول : إني وإن بالغت في هذه السورة في التغليظ إلا أن ذلك التغليط على الكافرين والمنافقين ، وأما رحمتي ورأفتي فمخصوصة بالمؤمنين فقط ، فلهذه الدقيقة عدل عن ذلك النسق .