[ ص: 97 ] ( سورة قريش )
وهي أربع آيات مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
( لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف )
بسم الله الرحمن الرحيم
( لإيلاف قريش إيلافهم )
اعلم أن ههنا مسائل :
المسألة الأولى : اللام في قوله : ( لإيلاف ) تحتمل وجوها ثلاثة :
فإنها إما أن تكون متعلقة بالسورة التي قبلها أو بالآية التي بعدها ، أو لا تكون متعلقة لا بما قبلها ، ولا بما بعدها .
أما الوجه الأول : وهو أن تكون متعلقة بما قبلها ، ففيه احتمالات :
الأول : وهو قول الزجاج وأبي عبيدة أن التقدير : ( فجعلهم كعصف مأكول ) لإلف قريش أي أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش ، وما قد ألفوا من رحلة الشتاء والصيف ، فإن قيل : هذا ضعيف لأنهم إنما جعلوا : ( كعصف مأكول ) لكفرهم ولم يجعلوا كذلك لتأليف قريش .
قلنا : هذا السؤال ضعيف لوجوه :
أحدها : أنا لا نسلم أن الله تعالى إنما فعل بهم ذلك لكفرهم ، فإن ، قال تعالى : ( الجزاء على الكفر مؤخر للقيامة اليوم تجزى كل نفس بما كسبت ) [ غافر : 17 ] وقال : ( ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ) [ فاطر : 45 ] ولأنه تعالى لو فعل بهم ذلك لكفرهم ، لكان قد فعل ذلك بجميع الكفار ، بل إنما فعل ذلك بهم : ( لإيلاف قريش ) ولتعظيم منصبهم وإظهار قدرهم .
وثانيها : هب أن زجرهم عن الكفر مقصود لكن لا ينافي كون شيء آخر مقصود حتى يكون الحكم واقعا بمجموع الأمرين معا .
وثالثها : هب أنهم أهلكوا لكفرهم فقط ، إلا أن ذلك الإهلاك لما أدى إلى إيلاف قريش ، جاز أن يقال : أهلكوا لإيلاف قريش ، كقوله تعالى : ( ليكون لهم عدوا وحزنا ) [ القصص : 8 ] وهم لم يلتقطوه لذلك ، لكن لما آل الأمر إليه حسن أن يمهد عليه الالتقاط . [ ص: 98 ]
الاحتمال الثاني : أن يكون التقدير : " ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل لإيلاف قريش " كأنه تعالى قال : كل ما فعلنا بهم فقد فعلناه ، لإيلاف قريش ، فإنه تعالى جعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ، حتى صاروا كعصف مأكول ، فكل ذلك إنما كان لأجل إيلاف قريش .
الاحتمال الثالث : أن تكون اللام في قوله : ( لإيلاف ) بمعنى إلى كأنه قال : فعلنا كل ما فعلنا في السورة المتقدمة إلى نعمة أخرى عليهم وهي إيلافهم : ( رحلة الشتاء والصيف ) تقول : نعمة الله نعمة ، ونعمة لنعمة سواء في المعنى ، هذا قول الفراء ، فهذه احتمالات ثلاثة توجهت على تقدير تعليق اللام بالسورة التي قبل هذه ، وبقي من مباحث هذا القول أمران :
الأول : أن للناس في تعليق هذه اللام بالسورة المتقدمة قولين :
أحدهما : أن جعلوا السورتين سورة واحدة واحتجوا عليه بوجوه :
أحدها : أن السورتين لا بد وأن تكون كل واحدة منهما مستقلة بنفسها ، ومطلع هذه السورة لما كان متعلقا بالسورة المتقدمة وجب أن لا تكون سورة مستقلة .
وثانيها : أن جعلهما في مصحفه سورة واحدة . أبي بن كعب
وثالثها : ما روي أن عمر قرأ في صلاة المغرب في الركعة الأولى والتين ، وفي الثانية ألم تر ولإيلاف قريش معا ، من غير فصل بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم .
القول الثاني : وهو المشهور المستفيض أن هذه السورة منفصلة عن سورة الفيل ، وأما تعلق أول هذه السورة بما قبلها فليس بحجة على ما قالوه ، لأن ، ألا ترى أن الآيات الدالة على الوعيد مطلقة ، ثم إنها متعلقة بآيات التوبة وبآيات العفو عند من يقول به ، وقوله : ( القرآن كله كالسورة الواحدة وكالآية الواحدة يصدق بعضها بعضا ويبين بعضها معنى بعض إنا أنزلناه ) [ القدر : 1 ] متعلق بما قبله من ذكر القرآن ، وأما قوله : إن أبيا لم يفصل بينهما فهو معارض بإطباق الكل على الفصل بينهما ، وأما قراءة عمر فإنها لا تدل على أنهما سورة واحدة لأن الإمام قد يقرأ سورتين .
البحث الثاني : فيما يتعلق بهذا القول : بيان أنه لم صار ما فعله الله بأصحاب الفيل سببا لإيلاف قريش ؟ فنقول : لا شك أن مكة كانت خالية عن الزرع والضرع على ما قال تعالى : ( بواد غير ذي زرع ) [ إبراهيم : 37 ] إلى قوله : ( فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات ) [ إبراهيم : 37 ] فكان أشراف أهل مكة يرتحلون للتجارة هاتين الرحلتين ، ويأتون لأنفسهم ولأهل بلدهم بما يحتاجون إليه من الأطعمة والثياب ، وهم إنما كانوا يربحون في أسفارهم ، ولأن ملوك النواحي كانوا يعظمون أهل مكة ، ويقولون : هؤلاء جيران بيت الله وسكان حرمه وولاة الكعبة حتى إنهم كانوا يسمون أهل مكة أهل الله ، فلو تم للحبشة ما عزموا عليه من هدم الكعبة ، لزال عنهم هذا العز ولبطلت تلك المزايا في التعظيم والاحترام ، ولصار سكان مكة كسكان سائر النواحي يتخطفون من كل جانب ويتعرض لهم في نفوسهم وأموالهم ، فلما أهلك الله أصحاب الفيل ورد كيدهم في نحرهم ازداد وقع أهل مكة في القلوب ، وازداد تعظيم ملوك الأطراف لهم فازدادت تلك المنافع والمتاجر ، فلهذا قال الله تعالى : ( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ) [ الفيل : 1 ] ( لإيلاف قريش . . . رحلة الشتاء والصيف ) .
والوجه الثاني فيما يدل على صحة هذا القول : أن قوله تعالى في آخر هذه السورة : ( فليعبدوا رب هذا البيت الذي ) إشارة إلى أول سورة الفيل ، كأنه قال : [ ص: 99 ] فليعبدوا رب هذا البيت ، الذي قصده أصحاب الفيل ، ثم إن رب البيت دفعهم عن مقصودهم لأجل إيلافكم ونفعكم لأن الأمر بالعبادة إنما يحسن مرتبا على إيصال المنفعة ، فهذا يدل على تعلق أول هذه السورة بالسورة المتقدمة .
القول الثاني : وهو أن اللام في : ( لإيلاف ) متعلقة بقوله : ( فليعبدوا ) وهو قول الخليل والتقدير : فليعبدوا رب هذا البيت ، لإيلاف قريش . أي ليجعلوا عبادتهم شكرا لهذه النعمة واعترافا بها ، فإن قيل : فلم دخلت الفاء في قوله : ( فليعبدوا ) ؟ قلنا : لما في الكلام من معنى الشرط ، وذلك لأن وسيبويه ، فكأنه قيل : إن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة . نعم الله عليهم لا تحصى
القول الثالث : أن تكون هذه اللام غير متعلقة ، لا بما قبلها ولا بما بعدها ، قال الزجاج : قال قوم : هذه اللام لام التعجب ، كأن المعنى : اعجبوا لإيلاف قريش ، وذلك لأنهم كل يوم يزدادون غيا وجهلا وانغماسا في عبادة الأوثان ، والله تعالى يؤلف شملهم ويدفع الآفات عنهم ، وينظم أسباب معايشهم ، وذلك لا شك أنه في غاية التعجب من عظيم حلم الله وكرمه ، ونظيره في اللغة قولك : لزيد وما صنعنا به ! ولزيد وكرامتنا إياه ! وهذا اختيار الكسائي والأخفش والفراء .