( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم ) [ ص: 125 ] قوله تعالى : ( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم )
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن تفسير هذه الآية يختلف بحسب اختلاف ما قبلها لأنا إن قلنا إن قوله : ( ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ) ( يوسف : 52 ) كلام يوسف كان هذا أيضا من كلام يوسف ، وإن قلنا إن ذلك من تمام كلام المرأة كان هذا أيضا كذلك ونحن نفسر هذه الآية على كلا التقديرين ، أما إذا قلنا إن هذا كلام يوسف عليه السلام فالحشوية تمسكوا به وقالوا : إنه عليه السلام لما قال : ( ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ) قال جبريل عليه السلام : ولا حين هممت بفك سراويلك ؟ فعند ذلك قال يوسف : ( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ) أي بالزنا ( إلا ما رحم ربي ) أي عصم ربي ( إن ربي غفور ) للهم الذي هممت به ( رحيم ) أي لو فعلته لتاب علي .
واعلم أن هذا الكلام ضعيف فإنا بينا أن الآية المتقدمة برهان قاطع على براءته عن الذنب بقي أن يقال : فما جوابكم عن هذه الآية ؟ فنقول : فيه وجهان :
الوجه الأول : أنه عليه السلام لما قال : ( ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ) كان ذلك جاريا مجرى مدح النفس وتزكيتها ، وقال تعالى : ( فلا تزكوا أنفسكم ) ( النجم : 32 ) فاستدرك ذلك على نفسه بقوله : ( وما أبرئ نفسي ) والمعنى : ميالة إلى القبائح راغبة في المعصية . وما أزكي نفسي إن النفس لأمارة بالسوء
والوجه الثاني : في الجواب أن الآية لا تدل البتة على شيء مما ذكروه وذلك لأن يوسف عليه السلام لما قال : ( أني لم أخنه بالغيب ) بين أن ، لأن النفس أمارة بالسوء ، والطبيعة تواقة إلى اللذات ؛ فبين بهذا الكلام أن الترك ما كان لعدم الرغبة ، بل لقيام الخوف من الله تعالى . ترك الخيانة ما كان لعدم الرغبة ولعدم ميل النفس والطبيعة
أما إذا قلنا : إن هذا الكلام من بقية كلام المرأة ففيه وجهان :
الأول : وما أبرئ نفسي عن مراودته ، ومقصودها تصديق يوسف عليه السلام في قوله : ( هي راودتني عن نفسي ) ( يوسف : 26 ) .
الثاني : أنها لما قالت : ( ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ) ( يوسف : 52 ) قالت : وما أبرئ نفسي عن الخيانة مطلقا فإني قد خنته حين قد أحلت الذنب عليه وقلت : ( ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم ) ( يوسف : 25 ) وأودعته السجن ، كأنها أرادت الاعتذار مما كان .
فإن قيل : جعل هذا الكلام كلاما ليوسف أولى أم جعله كلاما للمرأة ؟
قلنا : جعله كلاما ليوسف مشكل ، لأن قوله : ( قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق ) كلام موصول بعضه ببعض إلى آخره ، فالقول بأن بعضه كلام المرأة والبعض كلام يوسف مع تخلل الفواصل الكثيرة بين القولين وبين المجلسين بعيد ، وأيضا جعله كلاما للمرأة مشكل أيضا ؛ لأن قوله : ( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ) كلام لا يحسن صدوره إلا ممن احترز عن المعاصي ، ثم يذكر هذا الكلام على سبيل كسر النفس ، وذلك لا يليق بالمرأة التي استفرغت جهدها في المعصية .
المسألة الثانية : قالوا : " ما " في قوله : ( إلا ما رحم ربي ) بمعنى " من " والتقدير : إلا من رحم ربي ، و كقوله تعالى : ( " ما " و " من " كل واحد منهما يقوم مقام الآخر فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) ( النساء : 3 ) وقال : [ ص: 126 ] ( ومنهم من يمشي على أربع ) ( النور : 45 ) . وقوله : ( إلا ما رحم ربي ) استثناء متصل أو منقطع ، فيه وجهان :
الأول : أنه متصل ، وفي تقريره وجهان :
الأول : أن يكون قوله : ( إلا ما رحم ربي ) أي : إلا البعض الذي رحمه ربي بالعصمة كالملائكة .
الثاني : إلا ما رحم ربي ، أي : إلا وقت رحمة ربي يعني أنها أمارة بالسوء في كل وقت إلا في وقت العصمة .
والقول الثاني : أنه استثناء منقطع أي : ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة كقوله : ( ولا هم ينقذون إلا رحمة منا ) ( يس : 44 ) .
المسألة الثالثة : اختلف الحكماء في أن النفس الأمارة بالسوء ما هي ؟ .
والمحققون قالوا : إن النفس الإنسانية شيء واحد ، ولها صفات كثيرة فإذا مالت إلى العالم الإلهي كانت نفسا مطمئنة ، وإذا مالت إلى الشهوة والغضب كانت أمارة بالسوء ، وكونها أمارة بالسوء يفيد المبالغة ، والسبب فيه أن النفس من أول حدوثها قد ألفت المحسوسات والتذت بها وعشقتها ، فأما شعورها بعالم المجردات وميلها إليه ، فذلك لا يحصل إلا نادرا في حق الواحد فالواحد ، وذلك الواحد فإنما يحصل له ذلك التجرد والانكشاف طول عمره في الأوقات النادرة ، فلما كان الغالب هو انجذابها إلى العالم الجسداني ، وكان ميلها إلى الصعود إلى العالم الأعلى نادرا لا جرم حكم عليها بكونها أمارة بالسوء ، ومن الناس من زعم أن النفس المطمئنة هي النفس العقلية النطقية ، وأما النفس الشهوانية والغضبية فهما مغايرتان للنفس العقلية ، والكلام في تحقيق الحق في هذا الباب مذكور في المعقولات .
المسألة الرابعة : تمسك أصحابنا في أن بقوله : ( الطاعة والإيمان لا يحصلان إلا من الله إلا ما رحم ربي ) قالوا دلت الآية على أن انصراف النفس من الشر لا يكون إلا برحمته ولفظ الآية مشعر بأنه متى حصلت تلك الرحمة ؛ حصل ذلك الانصراف .
فنقول : لا يمكن تفسير هذه الرحمة بإعطاء العقل والقدرة والألطاف ، كما قاله القاضي ؛ لأن كل ذلك مشترك بين الكافر والمؤمن ، فوجب تفسيرها بشيء آخر ، وهو ترجيح داعية الطاعة على داعية المعصية ، وقد أثبتنا ذلك أيضا بالبرهان القاطع ، وحينئذ يحصل منه المطلوب .