أما قوله : ( فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها ) فالصد المنع ، وههنا مسائل :
المسألة الأولى : في هذين الضميرين وجهان :
أحدهما : قال أبو مسلم لا يصدنك عنها أي عن الصلاة التي أمرتك بها من لا يؤمن بها أي بالساعة فالضمير الأول عائد إلى الصلاة والثاني إلى الساعة ، ومثل هذا جائز في اللغة ، فالعرب تلف الخبرين ثم ترمي بجوابهما جملة ليرد السامع إلى كل خبر حقه .
وثانيهما : قال فلا يصدنك عن الساعة أي عن الإيمان بمجيئها من لا يؤمن بها فالضميران عائدان إلى يوم القيامة . قال القاضي : وهذا أولى ؛ لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورين وههنا الأقرب هو الساعة وما قاله ابن عباس أبو مسلم فإنما يصار إليه عند الضرورة ولا ضرورة ههنا .
المسألة الثانية : الخطاب في قوله : ( فلا يصدنك ) يحتمل أن يكون مع موسى - عليه السلام - وأن يكون مع [ ص: 21 ] محمد - صلى الله عليه وسلم - والأقرب أنه مع موسى ؛ لأن الكلام أجمع خطاب له وعلى كلا الوجهين فلا معنى لقول الزجاج إنه ليس بمراد ، وإنما أريد به غيره ؛ وذلك لأنه ظن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما لم يجز عليه مع النبوة أن يصده أحد عن الإيمان بالساعة لم يجز أن يكون مخاطبا بذلك وليس الأمر كما ظن ؛ لأنه إذا كان مكلفا بأن لا يقبل الكفر بالساعة من أحد وكان قادرا على ذلك جاز أن يخاطب به ويكون المراد هو وغيره ، ويحتمل أيضا أن يكون المراد بقوله : ( فلا يصدنك عنها ) النهي له عن الميل إليهم ومقاربتهم .
المسألة الثالثة : المقصود نهي موسى - عليه السلام - عن ولكن ظاهر اللفظ يقتضي نهي من لم يؤمن عن صد التكذيب بالبعث موسى - عليه السلام - وفيه وجهان :
أحدهما : أن صد الكافر عن التصديق بها سبب للتكذيب فذكر السبب ليدل على المسبب .
والثاني : أن صد الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين فذكر المسبب ليدل حمله على السبب كقوله : لا أرينك ههنا المراد نهيه عن مشاهدته والكون بحضرته ، فكذا ههنا كأنه قيل : لا تكن رخوا بل كن في الدين شديدا صلبا .
المسألة الرابعة : الآية تدل على أن واجب لأن قوله : ( تعلم علم الأصول فلا يصدنك ) يرجع معناه إلى صلابته في الدين وتلك الصلابة إن كان المراد بها التقليد لم يتميز المبطل فيه من المحق فلا بد وأن يكون المراد بهذه الصلابة كونه قويا في تقرير الدلائل وإزالة الشبهات حتى لا يتمكن الخصم من إزالته عن الدين بل هو يكون متمكنا من إزالة المبطل عن بطلانه .
المسألة الخامسة : قال القاضي قوله : ( فلا يصدنك ) يدل على أن العباد هم الذين يصدون ولو كان تعالى هو لكان هو الصاد دونهم فدل ذلك على بطلان القول بالجبر . الخالق لأفعالهم
والجواب : المعارضة بمسألة العلم والداعي والله أعلم ، أما قوله تعالى : ( واتبع هواه ) فالمعنى أن إنما أنكره اتباعا للهوى لا لدليل ، وهذا من أعظم الدلائل على فساد التقليد ؛ لأن المقلد متبع للهوى لا الحجة أما قوله : ( منكر البعث فتردى ) فهو بمعنى ولا يصدنك فتردى وإن صدوك وقبلت فليس إلا الهلاك بالنار . واعلم أن المتوغلين في أسرار المعرفة قالوا : المقام مقامان :
أحدهما : . مقام المحو والفناء عما سوى الله تعالى
والثاني : والأول مقدم على الثاني ؛ لأن من أراد أن يكتب شيئا في لوح مشغول بكتابة أخرى فلا سبيل له إليه إلا بإزالة الكتابة الأولى ثم بعد ذلك يمكن إثبات الكتابة الثانية ، والحق سبحانه راعى هذا الترتيب الحسن في هذا الباب ؛ لأنه قال مقام البقاء بالله لموسى - عليه السلام - أولا : ( فاخلع نعليك ) وهو إشارة إلى تطهير السر عما سوى الله تعالى ثم بعد ذلك أمره بتحصيل ما يجب تحصيله ، وأصول هذا الباب ترجع إلى ثلاثة : علم المبدأ ، وعلم الوسط ، وعلم المعاد .
: هو معرفة الحق سبحانه وتعالى ، وهو المراد بقوله : ( فعلم المبدأ إنني أنا الله لا إله إلا أنا ) .
وأما : فهو علم العبودية ومعناها الأمر الذي يجب أن يشتغل الإنسان به في هذه الحياة الجسمانية وهو المراد بقوله : ( علم الوسط فاعبدني وأقم الصلاة ) ثم في هذا أيضا تعثر ؛ لأن قوله : ( فاعبدني ) إشارة إلى الأعمال الجسمانية وقوله : ( لذكري ) إشارة إلى الأعمال الروحانية ، والعبودية أولها الأعمال الجسمانية ، وآخرها الأعمال الروحانية .
وأما : فهو قوله : ( علم المعاد إن الساعة آتية أكاد أخفيها ) ثم إنه تعالى افتتح هذه التكاليف بمحض اللطف وهو قوله : ( إني أنا ربك ) واختتمها بمحض القهر وهو قوله : ( فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى ) تنبيها على أن رحمته سبقت غضبه وإشارة إلى أن العبد لا بد له في العبودية من الرغبة والرهبة والرجاء والخوف ، وعند الوقوف على هذه الجملة تعرف أن هذا الترتيب هو النهاية في الحسن والجودة ، وأن ذلك لا يتأتى إلا من العالم بكل المعلومات .