الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ) أي إلى المضي إلى بيت المقدس ، قال الكلبي : كانت تسير من إصطخر إلى الشام يركب عليها سليمان وأصحابه .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( وكنا بكل شيء عالمين ) أي لعلمنا بالأشياء صح منا أن ندبر هذا التدبير في رسلنا ، وفي [ ص: 175 ] خلقنا ، وأن نفعل هذه المعجزات القاهرة .

                                                                                                                                                                                                                                            الإنعام الثاني : قوله تعالى : ( ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : المراد أنهم يغوصون له في البحار فيستخرجون الجواهر ويتجاوزون ذلك إلى الأعمال والمهن ، وبناء المدن والقصور ، واختراع الصنائع العجيبة ؛ كما قال : ( يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان ) [سبأ : 13 ] وأما الصناعات فكاتخاذ الحمام والنورة والطواحين والقوارير والصابون .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قوله : ( ومن الشياطين من يغوصون له ) يعني وسخرنا لسليمان من الشياطين من يغوصون له ، فيكون في موضع النصب نسقا على الريح ؛ قال الزجاج : ويجوز أن يكون في موضع رفع من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : النسق على الريح ، وأن يكون المعنى : ولسليمان الريح ، وله من يغوصون له من الشياطين ، ويجوز أن يكون رفعا على الابتداء ، ويكون " له " هو الخبر .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : يحتمل أن يكون من يغوص منهم هو الذي يعمل سائر الأعمال ، ويحتمل أنهم فرقة أخرى ، ويكون الكل داخلين في لفظة من ، وإن كان الأول هو الأقرب .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : ليس في الظاهر إلا أنه سخرهم ، لكنه قد روي أنه تعالى سخر كفارهم دون المؤمنين ، وهو الأقرب من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : إطلاق لفظ الشياطين .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : قوله : ( وكنا لهم حافظين ) فإن المؤمن إذا سخر في أمر لا يجب أن يحفظ لئلا يفسد ، وإنما يجب ذلك في الكافر .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : في تفسير قوله : ( وكنا لهم حافظين ) وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنه تعالى وكل بهم جمعا من الملائكة ، أو جمعا من مؤمني الجن .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : سخرهم الله تعالى بأن حبب إليهم طاعته وخوفهم من مخالفته .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد وسلطانه مقيم عليهم يفعل بهم ما يشاء ، فإن قيل : وعن أي شيء كانوا محفوظين ؟ قلنا : فيه ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنه تعالى كان يحفظهم عليه لئلا يذهبوا ويتركوه .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : قال الكلبي : كان يحفظهم من أن يهيجوا أحدا في زمانه .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : كان يحفظهم من أن يفسدوا ما عملوا ، فكان دأبهم أنهم يعملون بالنهار ثم يفسدونه في الليل .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السادسة : سأل الجبائي نفسه ، وقال : كيف يتهيأ لهم هذه الأعمال وأجسامهم رقيقة لا يقدرون على عمل الثقيل ، وإنما يمكنهم الوسوسة ؟ وأجاب بأنه سبحانه كثف أجسامهم خاصة وقواهم ، وزاد في عظمهم ؛ ليكون ذلك معجزا لسليمان عليه السلام ، فلما مات سليمان ردهم الله إلى الخلقة الأولى ؛ لأنه لو بقاهم على الخلقة الثانية لصار شبهة على الناس ، ولو ادعى متنبئ النبوة وجعله دلالة ، لكان كمعجزات الرسل ؛ فلذا ردهم إلى خلقتهم الأولى ، واعلم أن هذا الكلام ساقط من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : لم قلت : إن الجن من الأجسام ؟ ولم لا يجوز وجود محدث ليس بمتحيز ولا قائم بالمتحيز ، ويكون الجن منهم ؟ فإن قلت : لو كان الأمر كذلك لكان مثلا للباري تعالى؟ ، قلت : هذا ضعيف ؛ لأن الاشتراك في اللوازم الثبوتية لا يدل على الاشتراك في الملزومات فكيف اللوازم السلبية ، سلمنا أنه جسم ، لكن لا يجوز حصول القدرة على هذه الأعمال الشاقة في الجسم اللطيف ، وكلامه بناء على البنية شرط وليس في يده إلا الاستقراء الضعيف ؛ سلمنا أنه لا [ ص: 176 ] بد من تكثيف أجسامهم لكن لم قلت : بأنه لا بد من ردها إلى الخلقة الأولى بعد موت سليمان عليه السلام ، فإن قال : لئلا يفضي إلى التلبيس ؛ قلنا : التلبيس غير لازم ؛ لأن المتنبي إذا جعل ذلك معجزة لنفسه ، فللمدعي أن يقول : لم لا يجوز أن يقال : إن قوة أجسادهم كانت معجزة لنبي آخر قبلك ، ومع قيام هذا الاحتمال لا يتمكن المتنبي من الاستدلال به ، واعلم أن أجسام هذا العالم إما كثيفة أو لطيفة ، أما الكثيف فأكثف الأجسام الحجارة والحديد ، وقد جعلهما الله تعالى معجزة لداود عليه السلام ، فأنطق الحجر ولين الحديد ، وكل واحد منهما كما يدل على التوحيد والنبوة يدل على صحة الحشر ؛ لأنه لما قدر على إحياء الحجارة فأي بعد في إحياء العظام الرميمة ، وإذا قدر على أن يجعل في إصبع داود عليه السلام قوة النار مع كون الإصبع في نهاية اللطافة ، فأي بعد في أن يجعل التراب اليابس جسما حيوانيا ، وألطف الأشياء في هذا العالم الهواء والنار ، وقد جعلهما الله معجزة لسليمان عليه السلام ، أما الهواء فقوله تعالى : ( فسخرنا له الريح ) [ ص : 36 ] وأما النار فلأن الشياطين مخلوقون منها ، وقد سخرهم الله تعالى ، فكان يأمرهم بالغوص في المياه , والنار تنطفئ بالماء ، وهم ما كان يضرهم ذلك ، وذلك يدل على قدرته على إظهار الضد من الضد .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية