المطلوب الرابع : قوله : ( واجعل لي وزيرا من أهلي ) واعلم أن طلب الوزير إما أن يكون لأنه خاف من نفسه العجز عن القيام بذلك الأمر فطلب المعين ، أو لأنه رأى أن للتعاون على الدين والتظاهر عليه مع مخالصة الود وزوال التهمة مزية عظيمة في أمر الدعاء إلى الله ; ولذلك قال عيسى ابن مريم : ( من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله ) [ الصف : 14 ] وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم : ( حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ) [ الأنفال : 64 ] وقال عليه السلام : " جبريل وميكائيل واللذان في الأرض أبو بكر وعمر " وههنا مسائل : إن لي في السماء وزيرين وفي الأرض وزيرين ، فاللذان في السماء
المسألة الأولى : الوزير من الوزر لأنه يتحمل عن الملك أوزاره ومؤنه أو من الوزر وهو الجبل الذي يتحصن به لأن الملك يعتصم برأيه في رعيته ويفوض إليه أموره أو من الموازرة وهي المعاونة ، والموازرة مأخوذة من إزار الرجل وهو الموضع الذي يشده الرجل إذا استعد لعمل أمر صعب قاله الأصمعي ، وكان القياس أزيرا فقلبت الهمزة إلى الواو .
المسألة الثانية : قال عليه السلام : " ، إن نسي ذكره ، وإن نوى خيرا أعانه ، وإن أراد شرا كفه إذا أراد الله بملك خيرا قيض له وزيرا صالحا " وكان أنوشروان يقول : لا يستغني أجود السيوف عن الصقل ، ولا أكرم الدواب عن السوط ، ولا أعلم الملوك عن الوزير " .
المسألة الثالثة : إن قيل : الاستعانة بالوزير إنما يحتاج إليها الملوك ، أما الرسول المكلف بتبليغ الرسالة والوحي من الله تعالى إلى قوم على التعيين فمن أين ينفعه الوزير ؟ وأيضا فإنه عليه السلام سأل ربه أن يجعله شريكا له في النبوة فقال : ( وأشركه في أمري ) فكيف يكون وزيرا .
والجواب عن الأول أن التعاون على الأمر والتظاهر عليه مع مخالصة الود وزوال التهمة له مزية عظيمة في تأثير الدعاء إلى الله تعالى ، فكان موسى عليه السلام واثقا بأخيه هارون فسأل ربه أن يشد به أزره حتى يتحمل عنهما يمكن من الثقل في الإبلاغ .
المطلوب الخامس : أن يكون ذلك الوزير من أهله أي من أقاربه .
المطلوب السادس : أن يكون الوزير الذي من أهله هو أخوه هارون وإنما سأل ذلك لوجهين :
أحدهما : أن منقبة عظيمة ، فأراد أن لا تحصل هذه الدرجة إلا لأهله ، أو لأن كل واحد منهما كان في [ ص: 44 ] غاية المحبة لصاحبه والموافقة له ، وقوله : ( التعاون على الدين هارون ) في انتصابه وجهان :
أحدهما : أنه مفعول الجعل على تقدير : اجعل هارون أخي وزيرا لي .
والثاني : على البدل من وزيرا و " أخي " نعت لهارون أو بدل ، واعلم أن هارون عليه السلام كان مخصوصا بأمور ، منها الفصاحة لقوله تعالى عن موسى : ( وأخي هارون هو أفصح مني لسانا ) [ القصص : 34 ] ، ومنها أنه كان فيه رفق قال : ( قال ياابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي ) [ طه : 94 ] ، ومنها أنه كان أكبر سنا منه .
المطلوب السابع : قوله : ( اشدد به أزري ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : القراءة العامة : " اشدد به وأشركه " على الدعاء ، وقرأ ابن عامر وحده : " أشدد وأشركه " على الجزاء والجواب ، حكاية عن موسى عليه السلام أي أنا أفعل ذلك ، ويجوز لمن قرأ على لفظ الأمر أن يجعل ( أخي ) مرفوعا على الابتداء ( اشدد به ) خبره ويوقف على هارون .
المسألة الثانية : وآزره قواه قال تعالى : ( الأزر القوة فآزره ) [ الفتح : 29 ] أي أعانه قال أبو عبيدة : ( أزري ) أي ظهري ، وفي كتاب الخليل : الأزر الظهر .
المسألة الثالثة : أنه عليه السلام لما طلب من الله تعالى أن يجعل هارون وزيرا له طلب منه أن يشد به أزره ويجعله ناصرا له لأنه لا اعتماد على القرابة .
المطلوب الثامن : قوله : ( وأشركه في أمري ) والأمر ههنا النبوة ، وإنما قال ذلك لأنه عليه السلام علم أنه يشد به عضده وهو أكبر منه سنا وأفصح منه لسانا ، ثم إنه سبحانه وتعالى حكى عنهما لأجله دعا بهذا الدعاء ، فقال : ( كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا ) والتسبيح يحتمل أن يكون باللسان وأن يكون بالاعتقاد ، وعلى كلا التقديرين ، وأما فالتسبيح تنزيه الله تعالى في ذاته وصفاته وأفعاله عما لا يليق به ، ولا شك أن النفي مقدم على الإثبات ، أما قوله تعالى : ( الذكر فهو عبارة عن وصف الله تعالى بصفات الجلال والكبرياء إنك كنت بنا بصيرا ) ففيه وجوه :
أحدها : إنك عالم بأنا لا نريد بهذه الطاعات إلا وجهك ورضاك ولا نريد بها أحدا سواك .
وثانيها : ( كنت بنا بصيرا ) لأن هذه الاستعانة بهذه الأشياء لأجل حاجتي في النبوة إليها .
وثالثها : إنك بصير بوجوه مصالحنا فأعطنا ما هو أصلح لنا ، وإنما قيد الدعاء بهذا إجلالا لربه عن أن يتحكم عليه وتفويضا للأمر بالكلية إليه .