[ ص: 101 ] ( ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما )
قوله تعالى : ( ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما ) .
اعلم أنه تعالى لما وصف أمر يوم القيامة حكى سؤال من لم يؤمن بالحشر فقال : ( ويسألونك عن الجبال ) وفي تقرير هذا السؤال وجوه ، أحدها : أن قوله : ( يتخافتون ) وصف من الله تعالى لكل المجرمين بذلك ، فكأنهم قالوا : كيف يصح ذلك والجبال حائلة ومانعة من هذا التخافت ، وثانيها : قال الضحاك : نزلت في مشركي مكة قالوا : يا محمد كيف تكون الجبال يوم القيامة ؟ وكان سؤالهم على سبيل الاستهزاء . وثالثها : لعل قومه قالوا : يا محمد إنك تدعي أن الدنيا ستنقضي فلو صح ما قلته لوجب أن تبتدئ أولا بالنقصان ثم تنتهي إلى البطلان ، لكن أحوال العالم باقية كما كانت في أول الأمر ، فكيف يصح ما قلته من خراب الدنيا ؟ وهذه شبهة تمسك بها جالينوس في أن السماوات لا تفنى ، قال : لأنها لو فنيت لابتدأت في النقصان أولا حتى ينتهي نقصانها إلى البطلان ، فلما لم يظهر فيها النقصان علمنا أن القول بالبطلان باطل ، ثم أمر الله تعالى رسوله بالجواب عن هذا السؤال وضم إلى الجواب أمورا أخر في شرح أحوال القيامة وأهوالها .
الصفة الأولى : قوله : ( فقل ينسفها ربي نسفا ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إنما قال : ( فقل ) مع فاء التعقيب لأن مقصودهم من هذا السؤال الطعن في الحشر والنشر ، فلا جرم أمره بالجواب مقرونا بفاء التعقيب ؛ لأن تأخير البيان في مثل هذه المسألة الأصولية غير جائز ، أما في المسائل الفروعية فجائز ، لذلك ذكر هناك قل من غير حرف التعقيب .
المسألة الثانية : الضمير في قوله : ( ينسفها ) عائد إلى الجبال ، والنسف التذرية ، أي تصير الجبال كالهباء المنثور تذرى تذرية ، فإذا زالت الجبال زالت الحوائل فيعلم صدق قوله : ( يتخافتون ) قال الخليل : ( ينسفها ) أي يذهبها ويطيرها ، أما الضمير في قوله : ( فيذرها ) فهو عائد إلى الأرض ، فاستغنى عن تقديم ذكرها كما في عادة الناس من الإخبار عنها بالإضمار كقولهم : ما عليها أكرم من فلان ، وقال تعالى : [ ص: 102 ] ( ما ترك على ظهرها من دابة ) [فاطر : 45] وإنما قال : ( فيذرها قاعا صفصفا ) ليبين أن ذلك النسف لا يزيل الاستواء لئلا يقدر أنها لما زالت من موضع إلى موضع آخر صارت هناك حائلة ، هذا كله إذا كان المقصود من سؤالهم الاعتراض على كيفية المخافتة ، أما لو كان الغرض من السؤال ما ذكرنا من أنه لا نقصان فيها في الحال فوجب أن لا ينتهي أمرها إلى البطلان ، كان تقرير الجواب : أن بطلان الشيء قد يكون بطلانا يقع توليديا ، فحينئذ يجب تقديم النقصان على البطلان ، وقد يكون بطلانا يقع دفعة واحدة ، وههنا لا يجب تقديم النقصان على البطلان ، فبين الله تعالى أنه يفرق تركيبات هذا العالم الجسماني دفعة بقدرته ومشيئته فلا حاجة ههنا إلى تقديم النقصان على البطلان .
المسألة الثالثة : أنه تعالى وصف الأرض ذلك الوقت بصفات : أحدها : كونها قاعا وهو المكان المطمئن وقيل مستنقع الماء . وثانيها : الصفصف وهو الذي لا نبات عليه ، وقال أبو مسلم : القاع الأرض الملساء المستوية وكذلك الصفصف . وثالثها : قوله : ( لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ) وقال صاحب " الكشاف " : قد فرقوا بين العوج والعوج فقالوا : العوج بالكسر في المعاني ، والعوج بالفتح في الأعيان ، فإن قيل : الأرض عين فكيف صح فيها المكسور العين ؟ قلنا : اختيار هذا اللفظ له موقع بديع في وصف الأرض بالاستواء ونفي الاعوجاج ، وذلك لأنك لو عمدت إلى قطعة أرض فسويتها وبالغت في التسوية فإذا قابلتها المقاييس الهندسية وجدت فيها أنواعا من العوج خارجة عن الحس البصري ، قال : فذاك القدر في الاعوجاج لما لطف جدا ألحق بالمعاني فقيل فيه : عوج بالكسر ، واعلم أن هذه الآية تدل على أن الأرض تكون ذلك اليوم كرة حقيقية لأن المضلع لا بد وأن يتصل بعض سطوحه بالبعض لا على الاستقامة بل على الاعوجاج وذلك يبطله ظاهر الآية . ورابعها : الأمت النتوء اليسير ، يقال : مد حبله حتى ما فيه أمت ، وتحصل من هذه الصفات الأربع أن الأرض تكون ذلك اليوم ملساء خالية عن الارتفاع والانخفاض وأنواع الانحراف والاعوجاج .
الصفة الثانية ليوم القيامة قوله : ( يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له ) وفي الداعي قولان : الأول : أن ذلك الداعي هو النفخ في الصور . وقوله : ( لا عوج له ) أي لا يعدل عن أحد بدعائه بل يحشر الكل . الثاني : أنه ملك قائم على صخرة بيت المقدس ينادي ويقول : أيتها العظام النخرة ، والأوصال المتفرقة ، واللحوم المتمزقة ، قومي إلى ربك للحساب والجزاء . فيسمعون صوت الداعي فيتبعونه ، ويقال : إنه إسرافيل عليه السلام يضع قدمه على الصخرة ، فإن قيل هذا الدعاء يكون قبل الإحياء أو بعده ؟ قلنا : إن كان المقصود بالدعاء إعلامهم وجب أن يكون ذلك بعد الإحياء لأن دعاء الميت عبث وإن لم يكن المقصود إعلامهم بل المقصود مقصود آخر مثل أن يكون لطفا للملائكة ومصلحة لهم فذلك جائز قبل الإحياء .