( ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون )
قوله تعالى : ( ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون ) .
اعلم أنه سبحانه لما تكلم في دلائل التوحيد والنبوة والمعاد شرع في فيما يناله من قومه ، وتقوية لقلبه على أداء الرسالة ، والصبر على كل عارض دونها ، وذكر ههنا منها قصصا : قصص الأنبياء عليهم السلام ؛ تسلية للرسول عليه السلام
( القصة الأولى ، موسى عليه السلام ) قصة
ووجه الاتصال أنه تعالى لما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول : ( إنما أنذركم بالوحي ) أتبعه بأن هذه عادة الله تعالى في الأنبياء قبله فقال : ( ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين ) واختلفوا في على أقوال : أحدها : أنه هو التوراة ، فكان فرقانا إذ كان يفرق به بين الحق والباطل ، وكان ضياء إذ كان لغاية وضوحه يتوصل به إلى طرق الهدى وسبل النجاة في معرفة الله تعالى ومعرفة الشرائع ، وكان ذكرا أي موعظة أو ذكر ما يحتاجون إليه في دينهم ومصالحهم أو الشرف ، أما الواو في قوله : ( المراد بالفرقان وضياء ) فروى عكرمة عن رضي الله عنهما أنه قرأ ضياء بغير واو وهو حال من الفرقان ، وأما القراءة المشهورة فالمعنى آتيناهم الفرقان وهو التوراة وآتينا به ضياء وذكرى للمتقين . والمعنى أنه في نفسه ضياء وذكرى أو آتيناهما بما فيه من الشرائع والمواعظ ضياء وذكرى . القول الثاني : أن المراد من الفرقان ليس التوراة ثم فيه وجوه : أحدها : عن ابن عباس رضي الله عنهما : الفرقان هو النصر الذي أوتي ابن عباس موسى عليه السلام كقوله : [ ص: 155 ] ( وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان ) [الأنفال : 41] يعني يوم بدر حين فرق بين الحق وغيره من الأديان الباطلة . وثانيها : هو البرهان الذي فرق به دين الحق عن الأديان الباطلة عن ابن زيد . وثالثها : فلق البحر عن الضحاك . ورابعها : الخروج عن الشبهات ، قال : واعلم أنه تعالى إنما خصص الذكرى بالمتقين لما في قوله : ( محمد بن كعب هدى للمتقين ) [البقرة : 2] أما قوله تعالى : ( الذين يخشون ربهم بالغيب ) فقال صاحب " الكشاف " : محل الذين جر على الوصفية أو نصب على المدح أو رفع عليه ، وفي وجوه : أحدها : يخشون عذاب ربهم فيأتمرون بأوامره وينتهون عن نواهيه ، وإيمانهم بالله غيبي استدلالي ، فالعباد يعملون لله في الغيب والله لا يغيب عنه شيء ، عن معنى الغيب رضي الله عنهما . وثانيها : يخشون ربهم وهم غائبون عن الآخرة وأحكامها . وثالثها : يخشون ربهم في الخلوات إذا غابوا عن الناس وهذا هو الأقرب ، والمعنى أن خشيتهم من عقاب الله لازم لقلوبهم إلا أن ذلك مما يظهرونه في الملا دون الخلا ( ابن عباس وهم من ) عذاب ( الساعة ) وسائر ما يجري فيها من الحساب والسؤال ( مشفقون ) فيعدلون بسبب ذلك الإشفاق عن معصية الله تعالى ، ثم قال : وكما أنزلت عليهم الفرقان فكذلك هذا القرآن المنزل عليك وهو معنى قوله : ( وهذا ذكر مبارك ) بركته كثرة منافعه وغزارة علومه . وقوله : ( أفأنتم له منكرون ) فالمعنى أنه لا إنكار في إنزاله وفي عجائب ما فيه فقد آتينا موسى وهارون التوراة ، ثم هذا ، واشتماله على الأدلة العقلية وبيان الشرائع ، فمثل هذا الكتاب مع كثرة منافعه كيف يمكنكم إنكاره . القرآن معجز لاشتماله على النظم العجيب والبلاغة البديعة