[ ص: 18 ] أما ألم تر أن الله يسجد له ) ففيه أسئلة : قوله سبحانه وتعالى : (
السؤال الأول : ما الرؤية هاهنا ؟ الجواب : أنها العلم أي ألم تعلم أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض ، وإنما عرف ذلك بخبر الله لا أنه رآه .
السؤال الثاني : ما السجود هاهنا ؟ قلنا : فيه وجوه :
أحدها : قال الزجاج : أجود الوجوه في سجود هذه الأمور أنها تسجد مطيعة لله تعالى وهو كقوله : ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ) [ فصلت : 11 ] ، ( أن نقول له كن فيكون ) [ النحل : 40 ] ، ( وإن منها لما يهبط من خشية الله ) [ البقرة : 74 ] ، ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) [ الإسراء : 44 ] ، ( وسخرنا مع داود الجبال يسبحن ) والمعنى أن هذه الأجسام لما كانت قابلة لجميع الأعراض التي يحدثها الله تعالى فيها من غير امتناع البتة أشبهت الطاعة والانقياد وهو السجود ، فإن قيل : هذا التأويل يبطله قوله : ( وكثير من الناس ) فإن السجود بالمعنى الذي ذكرته عام في كل الناس ، فإسناده إلى كثير منهم يكون تخصيصا من غير فائدة ، والجواب من وجوه :
أحدها : أن السجود بالمعنى الذي ذكرناه وإن كان عاما في حق الكل إلا أن بعضهم تمرد وتكبر وترك السجود في الظاهر ، فهذا الشخص وإن كان ساجدا بذاته لكنه متمرد بظاهره ، أما المؤمن فإنه ساجد بذاته وبظاهره ، فلأجل هذا الفرق حصل التخصيص بالذكر .
وثانيها : أن نقطع قوله : ( وكثير من الناس ) عما قبله ثم فيه ثلاثة أوجه :
الأول : أن نقول : تقدير الآية : ولله يسجد من في السماوات ومن في الأرض ويسجد له كثير من الناس ، فيكون السجود الأول بمعنى الانقياد .
والثاني بمعنى الطاعة والعبادة ، وإنما فعلنا ذلك لأنه قامت الدلالة على أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في معانيه جميعا .
الثاني : أن يكون قوله : ( وكثير من الناس ) مبتدأ وخبره محذوف ، وهو مثاب ؛ لأن خبر مقابله يدل عليه وهو قوله : ( حق عليه العذاب ) .
والثالث : أن يبالغ في تكثير المحقوقين بالعذاب فيعطف كثير على كثير ثم يخبر عنهم بحق عليهم العذاب ، كأنه قيل : وكثير من الناس وكثير حق عليهم العذاب .
وثالثها : أن من يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه جميعا يقول : المراد بالسجود في حق الأحياء العقلاء العبادة وفي حق الجمادات الانقياد ، ومن ينكر ذلك يقول : إن الله تعالى تكلم بهذه اللفظة مرتين ، فعنى بها في حق العقلاء الطاعة ، وفي حق الجمادات الانقياد .
السؤال الثالث : ولله يسجد من في السماوات والأرض ) [ الرعد : 15 ] لفظه لفظ العموم فيدخل فيه الناس فلم قال مرة أخرى : ( وكثير من الناس ) الجواب : لو اقتصر على ما تقدم لأوهم أن كل الناس يسجدون كما أن كل الملائكة يسجدون ، فبين أن كثيرا منهم يسجدون طوعا دون كثير منهم ، فإنه يمتنع عن ذلك وهم الذين حق عليهم العذاب . القول الثاني : في تفسير السجود أن كل ما سوى الله تعالى فهو ممكن لذاته والممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه إلا عند الانتهاء إلى الواجب لذاته كما قال : ( قوله : ( وأن إلى ربك المنتهى ) [ النجم : 42 ] وكما أن الإمكان لازم للممكن حال حدوثه وبقائه فافتقاره إلى الواجب حاصل حال حدوثه وحال بقائه ، وهذا الافتقار الذاتي اللازم للماهية أدل على الخضوع والتواضع من وضع الجبهة على الأرض ، فإن ذلك علامة وضعية للافتقار الذاتي ، قد يتطرق إليها الصدق والكذب ، أما نفس الافتقار الذاتي فإنه ممتنع التغير والتبدل ، فجميع الممكنات ساجدة بهذا المعنى لله تعالى أي خاضعة متذللة معترفة بالفاقة إليه والحاجة إلى تخليقه وتكوينه ، وعلى هذا تأولوا قوله : ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) [ الإسراء : 44 ] [ ص: 19 ] وهذا قول القفال رحمه الله . القول الثالث : أن سجود هذه الأشياء سجود ظلها كقوله تعالى : ( يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون ) [ النحل : 48 ] وهو قول . مجاهد
وأما قوله : ( وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ) فقال في رواية ابن عباس عطاء : وكثير من الناس يوحده وكثير حق عليه العذاب ممن لا يوحده ، وروي عنه أيضا أنه قال : وكثير من الناس في الجنة . وهذه الرواية تؤكد ما ذكرنا أن قوله : ( وكثير من الناس ) مبتدأ وخبره محذوف ، وقال آخرون : الوقف على قوله : ( وكثير من الناس ) ثم استأنف ، فقال : ( وكثير حق عليه العذاب ) أي وجب بإبائه وامتناعه من السجود .
وأما قوله تعالى : ( ومن يهن الله فما له من مكرم ) فالمعنى أن الذين حق عليهم العذاب ليس لهم أحد يقدر على إزالة ذلك الهوان عنهم فيكون مكرما لهم ، ثم بين بقوله : ( إن الله يفعل ما يشاء ) أنه الذي يصح منه الإكرام والهوان يوم القيامة بالثواب والعقاب ، والله أعلم .