( فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون ) [ ص: 106 ]
قوله تعالى : ( فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون )
اعلم أنه سبحانه لما قال: ( ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ) ذكر أحوال ذلك اليوم فقال: ( فإذا نفخ في الصور ) وفيه ثلاثة أقوال، أحدها: أن ولإعادة الأموات، روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرن ينفخ فيه. وثانيها: أن المراد من الصور مجموع الصور، والمعنى : فإذا نفخ في الصور أرواحها. وهو قول الصور آلة إذا نفخ فيها يظهر صوت عظيم، جعله الله تعالى علامة لخراب الدنيا الحسن ، فكان يقرأ بفتح الواو, والفتح والكسر عن أبي رزين ، وهو حجة لمن فسر الصور بجمع صورة. وثالثها: أن النفخ في الصور استعارة , والمراد منه البعث والحشر، والأول أولى للخبر. وفي قوله : ( ثم نفخ فيه أخرى ) [الزمر: 68] دلالة على أنه ليس المراد نفخ الروح والإحياء; لأن ذلك لا يتكرر.
أما قوله : ( فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ) فمن المعلوم أنه سبحانه إذا أعادهم فالأنساب ثابتة; لأن المعاد هو الولد والوالد، فلا يجوز أن يكون المراد نفي النسب في الحقيقة بل المراد نفي حكمه، وذلك من وجوه.
أحدها: أن من حق النسب أن يقع به التعاطف والتراحم كما يقال في الدنيا: أسألك بالله والرحم أن تفعل كذا. فنفى سبحانه ذلك من حيث إن كل أحد من أهل النار يكون مشغولا بنفسه، وذلك يمنعه من الالتفات إلى النسب، وهكذا الحال في الدنيا; لأن الرجل متى وقع في الأمر العظيم من الآلام ينسى ولده ووالده.
وثانيها: أن من حق النسب أن يحصل به التفاخر في الدنيا، وأن يسأل بعضهم عن كيفية نسب البعض، وفي الآخرة لا يتفرغون لذلك.
وثالثها: أن يجعل ذلك استعارة عن الخوف الشديد فكل امرئ مشغول بنفسه عن بنيه وأخيه وفصيلته التي تؤويه ، فكيف بسائر الأمور؟! قال ابن مسعود رضي الله عنه : يؤخذ العبد والأمة يوم القيامة على رءوس الأشهاد، وينادي مناد : ألا إن هذا فلان ، فمن له عليه حق فليأت إلى حقه, فتفرح المرأة حينئذ أن يثبت لها حق على أمها أو أختها أو أبيها أو أخيها أو ابنها أو زوجها ( فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ) .
وعن قتادة : لا شيء أبغض إلى الإنسان يوم القيامة من أن يرى من يعرفه مخافة أن يثبت له عليه شيء ، ثم تلا ( يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه ) [عبس: 34] وعن قال: قالت الشعبي رضي الله عنها: عائشة فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ) فقال عليه الصلاة والسلام: " : حين يرمى إلى كل إنسان كتابه، وعند الموازين، وعلى جسر جهنم ثلاث مواطن تذهل فيها كل نفس " وطعن بعض الملحدة فقال: قوله : ( يا رسول الله، أما نتعارف يوم القيامة، أسمع الله تعالى يقول: ( ولا يتساءلون ) وقوله: ( ولا يسأل حميم حميما ) [المعارج: 10] يناقض قوله : ( وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ) [الصافات: 27] وقوله: ( يتعارفون بينهم ) [يونس: 45]. الجواب عنه من وجوه.
أحدها: أن ففيه أزمنة وأحوال مختلفة فيتعارفون ويتساءلون في بعضها، ويتحيرون في بعضها لشدة الفزع. يوم القيامة مقداره خمسون ألف سنة
وثانيها: أنه إذا نفخ في الصور نفخة واحدة شغلوا بأنفسهم عن التساؤل، فإذا نفخ فيه أخرى أقبل بعضهم على بعض وقالوا: ( ياويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن ) [يس: 52].
وثالثها: المراد : لا يتساءلون بحقوق النسب.
ورابعها: أن قوله : ( لا يتساءلون ) صفة للكفار وذلك لشدة خوفهم. [ ص: 107 ]
أما قوله : ( فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ) [الصافات: 50] فهو إذا دخلوها، واعلم أنه سبحانه قد بين أن بعد النفخ في الصور تكون المحاسبة، وشرح أحوال السعداء والأشقياء، وقيل: لما بين سبحانه أنه ليس في الآخرة إلا ثقل الموازين وخفتها، وجب أن يكون كل مكلف لا بد وأن يكون من أهل الجنة وأهل الفلاح أو من أهل النار ، فيبطل بذلك القول بأن فيهم من لا يستحق الثواب والعقاب أو من يتساوى له الثواب والعقاب. ثم إنه سبحانه شرح حال السعداء بقوله: ( صفة أهل الجنة فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ) وفي الموازين أقوال.
أحدها: أنه استعارة من العدل.
وثانيها: أن فمن أتى بما له قدر وخطر فهو الفائز الظافر، ومن أتى بما لا وزن له كقوله تعالى : ( الموازين هي الأعمال الحسنة والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ) [النور: 39] فهو خالد في جهنم.
قال رضي الله عنهما: الموازين جمع موزون وهي الموزونات من الأعمال، أي: الصالحات التي لها وزن وقدر عند الله تعالى ، من قوله : ( ابن عباس فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ) [الكهف: 105] أي قدرا.
وثالثها: أنه ميزان له لسان وكفتان يوزن فيه الحسنات في أحسن صورة، والسيئات في أقبح صورة، فمن ثقلت حسناته سيق إلى الجنة ومن ثقلت سيئاته فإلى النار، وتمام الكلام في هذا الباب قد تقدم في سورة الأنبياء عليهم السلام. وأما الأشقياء فقد وصفهم الله تعالى بأمور أربعة:
أحدها: أنهم خسروا أنفسهم، قال رضي الله عنهما: غبنوها بأن صارت منازلهم للمؤمنين، وقيل: امتنع انتفاعهم بأنفسهم لكونهم في العذاب. ابن عباس
وثانيها: قوله : ( في جهنم خالدون ) ودلالته على بينة. قال صاحب "الكشاف": "في جهنم خالدون" بدل من " خسروا أنفسهم " أو خبر بعد خبر لأولئك أو خبر مبتدأ محذوف. خلود الكفار في النار
وثالثها قوله : ( تلفح وجوههم النار ) قال رضي الله عنهما: أي تضرب وتأكل لحومهم وجلودهم، قال ابن عباس الزجاج : اللفح والنفخ واحد إلا أن اللفح أشد تأثيرا.
ورابعها قوله : ( وهم فيها كالحون ) والكلوح أن تتقلص الشفتان ويتباعدا عن الأسنان، كما ترى الرءوس المشوية، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " "، وقرئ "كلحون"، ثم إنه سبحانه لما شرح عذابهم، حكى ما يقال لهم عند ذلك تقريعا وتوبيخا، وهو قوله تعالى : ( تشويه النار فتتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته ألم تكن آياتي تتلى عليكم ) ثم إنكم كنتم تكذبون بها مع وضوحها، فلا جرم صرتم مستحقين لما أنتم فيه من العذاب الأليم. قالت المعتزلة : الآية تدل على أنهم إنما وقعوا في ذلك العذاب لسوء أفعالهم، ولو كان فعل العباد بخلق الله تعالى لما صح ذلك. والجواب: أن القادر على الطاعة والمعصية إن صدرت المعصية عنه لا لمرجح البتة كان صدورها عنه اتفاقيا لا اختياريا، فوجب أن لا يستحق العقاب، وإن كان لمرجح، فذاك المرجح ليس من فعله وإلا لزم التسلسل، فحينئذ يكون صدور تلك الطاعة عنه اضطراريا لا اختياريا، فوجب أن لا يستحق الثواب.