( ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون )
ثم قال تعالى : ( ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون ) والترتيب ظاهر ، ويظهر أيضا في التفسير .
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لم أخر التنبيه على الانتفاع بقوله : ( ليأكلوا ) عن ذكر الثمار حتى قال : ( وفجرنا فيها من العيون ) وقال في الحب : ( فمنه يأكلون ) عقيب ذكر الحب ، ولم يقل عقيب ذكر النخيل والأعناب : ليأكلوا ؟ نقول : الحب قوت وهو يتم وجوده بمياه الأمطار ، ولهذا يرى أكثر البلاد لا يكون بها شيء من الأشجار والزرع ، والحراثة لا تبطل هناك اعتمادا على ماء السماء ، ، وأما الثمار فلا تتم إلا بالأنهار ولا تصير الأشجار حاملة للثمار إلا بعد وجود الأنهار فلهذا أخر . وهذا لطف من الله حيث جعل ما يحتاج إليه الإنسان أعم وجودا
المسألة الثانية : الضمير في قوله : ( من ثمره ) عائد إلى أي شيء ؟ نقول : المشهور أنه عائد إلى الله أي ليأكلوا من ثمر الله ، وفيه لطيفة : وهي أن الثمار بعد وجود الأشجار وجريان الأنهار لم توجد إلا بالله تعالى ولولا خلق الله ذلك لم توجد ، فالثمر بعد جميع ما يظن الظان أنه سبب وجوده ليس إلا بالله تعالى وإرادته فهي [ ص: 60 ] ثمره ، ويحتمل أن يعود إلى النخيل ، وترك الأعناب لحصول العلم بأنها في حكم النخيل ، ويحتمل أن يقال : هو راجع إلى المذكور أي من ثمر ما ذكرنا ، وهذان الوجهان نقلهما ، ويحتمل وجها آخر أغرب وأقرب ، وهو أن يقال : المراد من الثمر الفوائد ، يقال : ثمرة التجارة الربح ، ويقال : ثمرة العبادة الثواب ، وحينئذ يكون الضمير عائدا إلى التفجير المدلول عليه بقوله : ( الزمخشري وفجرنا فيها من العيون ) تفجيرا ليأكلوا من فوائد ذلك التفجير ، وفوائده أكثر من الثمار ، بل يدخل فيه ما قال الله تعالى : ( أنا صببنا الماء صبا ) ( عبس : 25 ) إلى أن قال : ( فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا ) ( عبس : 30 ) والتفجير أقرب في الذكر من النخيل ، ولو كان عائدا إلى الله لقال : من ثمرنا ، كما قال : وجعلنا ، وفجرنا .
المسألة الثالثة : ما في قوله : ( وما عملته ) من أي الماءات هي ؟ نقول : فيها وجوه :
أحدها : نافية كأنه قال : وما عملت التفجير أيديهم ، بل الله فجر .
وثانيها : موصولة بمعنى الذي ، كأنه قال : والذي عملته أيديهم من الغراس بعد التفجير يأكلون منه أيضا ويأكلون من ثمر الله الذي أخرجه من غير سعي من الناس ، فعطف الذي عملته الأيدي على ما خلقه الله من غير مدخل للإنسان فيها .
وثالثها : هي مصدرية على قراءة من قرأ ( وما عملت ) من غير ضمير عائد ؛ معناه : ليأكلوا من ثمره وعمل أيديهم ؛ يعني يغرسون والله ينبتها ويخلق ثمرها ، فيأكلون مجموع عمل أيديهم وخلق الله ، وهذا الوجه لا يمكن على قراءة من قرأ مع الضمير .
المسألة الرابعة : على قولنا : ما موصولة ، يحتمل أن تكون بمعنى : وما عملته أي بالتجارة ؛ كأنه ذكر نوعي ما يأكل الإنسان بهما ، وهما الزراعة والتجارة ، ومن النبات ما يؤكل من غير عمل الأيدي كالعنب والتمر وغيرهما ، ومنه ما يعمل فيه عمل صنعة ، فيؤكل كالأشياء التي لا تؤكل إلا مطبوخة أو كالزيتون الذي لا يؤكل إلا بعد إصلاح ، ثم لما عدد النعم أشار إلى الشكر بقوله : ( أفلا يشكرون ) وذكر بصيغة الاستفهام لما بينا من فوائد الاستفهام فيما تقدم .