الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه تعالى حكم على الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه بأن قال : ( أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب ) وفي ذلك دقيقة عجيبة ، وهي أن حصول الهداية في العقل والروح أمر حادث ، ولا بد له من فاعل وقابل ، أما الفاعل فهو الله سبحانه ، وهو المراد من قوله : ( أولئك الذين هداهم الله ) وأما القابل فإليه الإشارة بقوله : ( وأولئك هم أولو الألباب ) فإن الإنسان ما لم يكن عاقلا كامل الفهم امتنع حصول هذه المعارف الحقية في قلبه ، وإنما قلنا : إن الفاعل لهذه الهداية هو الله ، وذلك لأن جوهر النفس مع ما فيها من نور العقل قابل للاعتقاد الحق ، والاعتقاد الباطل ، وإذا كان الشيء قابلا للضدين كانت نسبة ذلك القابل إليهما على السوية ، ومتى كان الأمر كذلك امتنع كون ذلك القابل سببا لرجحان أحد الطرفين ، ألا ترى أن الجسم لما كان قابلا للحركة والسكون على السوية ، امتنع أن تصير ذات الجسم سببا لرجحان أحد الطرفين على الآخر ، فإن قالوا : لا نقول : إن ذات النفس والعقل توجب هذا الرجحان ، بل نقول : إنه يريد تحصيل أحد الطرفين ، فتصير تلك الإرادة سببا لذلك الرجحان ، فنقول : هذا باطل ، لأن ذات النفس كما أنها قابلة لهذه الإرادة ، فكذلك ذات العقل قابلة لإرادة مضادة لتلك الإرادة ، فيمتنع كون جوهر النفس سببا لتلك الإرادة ، فثبت أن حصول الهداية لا بد لها من فاعل ومن قابل .

                                                                                                                                                                                                                                            أما الفاعل : فيمتنع أن يكون هو النفس ، بل الفاعل هو الله تعالى ، وأما القابل : فهو جوهر النفس ، فلهذا السبب قال : ( أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب ) ثم قال : ( أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار ) ، وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : في لفظ الآية سؤال ، وهو أنه يقال : إنه قال : ( أفمن حق عليه كلمة العذاب ) ولا يصح في الكلام العربي أن يدخل حرف الاستفهام على الاسم وعلى الخبر معا ، فلا يقال : أزيد أتقتله ، بل ههنا شيء آخر ، وهو أنه كما دخل حرف الاستفهام على الشرط وعلى الجزاء ، فكذلك دخل حرف الفاء عليهما معا ، وهو قوله : ( أفمن حق ) ، ( أفأنت تنقذ ) ولأجل هذا السؤال اختلف النحويون وذكروا فيه وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قال الكسائي : الآية جملتان ، والتقدير : أفمن حق عليه كلمة العذاب ، أفأنت تحميه ، أفأنت تنقذ من في النار .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : قال صاحب " الكشاف " : أصل الكلام : أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذه ، وهي جملة شرطية دخل عليها همزة الإنكار ، والفاء فاء الجزاء ، ثم دخلت الفاء التي في أولها للعطف على محذوف يدل عليه [ ص: 229 ] الخطاب ، والتقدير : أأنت مالك أمرهم ، فمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذه ، والهمزة الثانية هي الأولى كررت لتوكيد معنى الإنكار والاستبعاد ، ووضع " من في النار " موضع الضمير ، والآية على هذا جملة واحدة .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : لا يبعد أن يقال : إن حرف الاستفهام إنما ورد ههنا لإفادة معنى الإنكار ، ولما كان استنكاره هذا المعنى كاملا تاما ، لا جرم ذكر هذا الحرف في الشرط وأعاده في الجزاء ، تنبيها على المبالغة التامة في ذلك الإنكار .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : احتج الأصحاب بهذه الآية في مسألة الهدى والضلال ، وذلك لأنه تعالى قال : ( أفمن حق عليه كلمة العذاب ) فإذا حقت كلمة العذاب عليه امتنع منه فعل الإيمان والطاعة ، وإلا لزم انقلاب خبر الله الصدق كذبا ، وانقلاب علمه جهلا ، وهو محال .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثاني في الاستدلال بالآية : أنه تعالى حكم بأن حقية كلمة العذاب توجب الاستنكار التام من صدور الإيمان والطاعة عنه ، ولو كان ذلك ممكنا ، ولم تكن حقيقة كلمة العذاب مانعة منه ، لم يبق لهذا الاستنكار والاستبعاد معنى .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : احتج القاضي بهذه الآية على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يشفع لأهل الكبائر ، قال : لأنه حق عليهم العذاب ، فتلك الشفاعة تكون جارية مجرى إنقاذهم من النار ، وأن الله تعالى حكم عليهم بالإنكار والاستبعاد ، فيقال له : لا نسلم أن أهل الكبائر قد حق عليهم العذاب ، وكيف يحق العذاب عليهم مع أن الله تعالى قال : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء : 48 ] ومع قوله : ( إن الله يغفر الذنوب جميعا ) [ الزمر : 53 ] ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            النوع الثاني : من الأشياء التي وعدها الله هؤلاء الذين اجتنبوا وأنابوا قوله تعالى : ( لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية ) وهذا كالمقابل لما ذكر في وصف الكفار ( لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ) ، فإن قيل : ما معنى قوله : ( مبنية ) ؟ قلنا : لأن المنزل إذا بني على منزل آخر تحته كان الفوقاني أضعف بناء من التحتاني ، فقوله : ( مبنية ) معناه : أنه وإن كان فوق غيره لكنه في القوة والشدة مساو للمنزل الأسفل ، والحاصل أن المنزل الفوقاني والتحتاني حصل في كل واحد منهما فضيلة ومنقصة ، أما الفوقاني ففضيلته العلو والارتفاع ، ونقصانه الرخاوة والسخافة ، وأما التحتاني فبالضد منه ، أما منازل الجنة فإنها تكون مستجمعة لكل الفضائل ، وهي عالية مرتفعة ، وتكون في غاية القوة والشدة ، وقال حكماء الإسلام : هذه الغرف المبنية بعضها فوق البعض ، مثاله من الأحوال النفسانية العلوم الكسبية ، فإن بعضها يكون مبنيا على البعض ، والنتائج الآخرة التي هي عبارة عن معرفة ذات الله وصفاته تكون في غاية القوة ، بل تكون في القوة والشدة كالعلوم الأصلية البديهية .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( تجري من تحتها الأنهار ) وذلك معلوم ، ثم ختم الكلام فقال : ( وعد الله لا يخلف الله الميعاد ) ، فقوله : ( وعد الله ) مصدر مؤكد ، لأن قوله ( لهم غرف ) في معنى : وعدهم الله ذلك ، وفي الآية دقيقة شريفة ، وهي أنه تعالى في كثير من آيات الوعد صرح بأن هذا وعد الله ، وأنه لا يخلف وعده ، ولم يذكر في آيات الوعيد ألبتة مثل هذا التأكيد والتقوية ، وذلك يدل على أن جانب الوعد أرجح من جانب الوعيد بخلاف ما يقوله المعتزلة ، فإن قالوا : أليس أنه قال في جانب الوعيد : ( ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد ) [ ق : 29 ] قلنا : قوله : ( ما يبدل القول لدي ) ليس تصريحا بجانب الوعيد ، بل هو كلام عام يتناول القسمين ، أعني الوعد والوعيد ، فثبت أن الترجيح الذي ذكرناه حق ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 230 ]

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية