( وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون )
ثم قال تعالى : ( وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون ) ولها مناسبة مع ما تقدم من وجهين :
أحدهما : أنه تعالى لما من بإحياء الأرض وهي مكان الحيوانات بين أنه لم يقتصر ، بل جعل للإنسان طريقا يتخذ من البحر خيرا ويتوسطه أو يسير فيه كما يسير في البر ، وهذا حينئذ كقوله : ( وحملناهم في البر والبحر ) ( الإسراء : 70 ) ويؤيد هذا قوله تعالى : ( وخلقنا لهم من مثله ما يركبون ) ( يس : 42 ) إذا فسرناه بأن المراد الإبل فإنها كسفن البراري .
وثانيهما : هو أنه تعالى لما بين سباحة الكواكب في الأفلاك ، وذكر ما هو مثله وهو . سباحة الفلك في البحار
ولها وجه ثالث : وهي أن ، والأول للحاجة ، والثاني للزينة ، فخلق الأرض وإحياؤها من القبيل الأول ، فإنها المكان الذي لولاه لما وجد الإنسان ، ولولا إحياؤها لما عاش والليل والنهار في قوله : ( الأمور التي أنعم الله بها على عباده منها ضرورية ومنها نافعة وآية لهم الليل ) أيضا من القبيل الأول ، لأنه الزمان الذي [ ص: 69 ] لولاه لما حدث الإنسان ، والشمس والقمر وحركتهما لو لم تكن لما عاش ، ثم إنه تعالى لما ذكر من القبيل الأول آيتين ذكر من القبيل الثاني وهو الزينة آيتين :
إحداهما : الفلك التي تجري في البحر ، فيستخرج من البحر ما يتزين به ، كما قال تعالى : ( ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر ) ( فاطر : 12 ) .
وثانيتهما : الدواب التي هي في البر كالفلك في البحر في قوله : ( وخلقنا لهم من مثله ما يركبون ) ( يس : 42 ) فإن الدواب زينة كما قال تعالى : ( والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ) ( النحل : 8 ) وقال : ( ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ) ( النحل : 6 ) فيكون استدلالا عليهم بالضروري والنافع ، لا يقال بأن النافع ذكره في قوله : ( جنات من نخيل وأعناب ) فإنها للزينة ؛ لأنا نقول ذلك حصل تبعا للضروري ، لأن الله تعالى لما خلق الأرض منبتة لدفع الضرورة ، وأنزل الماء عليها ، كذلك لزم أن يخرج من الجنة النخيل والأعناب بقدرة الله ، وأما الفلك فمقصود لا تبع ، ثم إذا علمت المناسبة ، ففي الآيات أبحاث لغوية ومعنوية :
أما اللغوية فنذكرها في مسائل :
المسألة الأولى : قال المفسرون : الذرية هم الآباء أي حملنا آباءكم في الفلك ، والألف واللام للتعريف ؛ أي فلك نوح وهو مذكور في قوله : ( واصنع الفلك ) ( هود : 37 ) ومعلوم عند العرب فقال الفلك ، هذا قول بعضهم ، وأما الأكثرون فعلى أن الذرية لا تطلق إلا على الولد ، وعلى هذا فلا بد من بيان المعنى ، فنقول : الفلك إما أن يكون المراد الفلك المعين الذي كان لنوح ، وإما أن يكون المراد الجنس ، كما قال تعالى : ( وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون ) ( الزخرف : 12 ) وقال تعالى : ( وترى الفلك فيه مواخر ) ( فاطر : 12 ) وقال تعالى : ( فإذا ركبوا في الفلك ) ( العنكبوت : 65 ) إلى غير ذلك من استعمال لام التعريف في الفلك لبيان الجنس ، فإن كان المراد سفينة نوح عليه السلام ، ففيه وجوه :
الأول : أن المراد أنا حملنا أولادكم إلى يوم القيامة في ذلك الفلك ، ولولا ذلك لما بقي للآدمي نسل ولا عقب ، وعلى هذا فقوله : ( حملنا ذريتهم ) بدل قوله : حملناهم ، إشارة إلى كمال النعمة ؛ أي لم تكن النعمة مقتصرة عليكم ، بل متعدية إلى أعقابكم إلى يوم القيامة ، هذا ما قاله ، ويحتمل عندي أن يقال على هذا : إنه تعالى إنما خص الذرية بالذكر ؛ لأن الموجودين كانوا كفارا لا فائدة في وجودهم ، فقال : ( الزمخشري حملنا ذريتهم ) أي لم يكن الحمل حملا لهم ، وإنما كان حملا لما في أصلابهم من المؤمنين ، كما أن من حمل صندوقا لا قيمة له وفيه جواهر ، إذا قيل له : لم تحمل هذا الصندوق وتتعب في حمله وهو لا يشترى بشيء ؟ يقول : لا أحمل الصندوق وإنما أحمل ما فيه .
الثاني : هو أن المراد بالذرية الجنس معناه حملنا أجناسهم ؛ وذلك لأن ولد الحيوان من جنسه ونوعه ، والذرية تطلق على الجنس ، ولهذا يطلق على النساء ، أي النساء ، وذلك لأن المرأة وإن كانت صنفا غير صنف الرجل لكنها من جنسه ونوعه ، يقال : ذرارينا أي أمثالنا ، فقوله : ( نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الذراري أنا حملنا ذريتهم ) أي أمثالهم وآباؤهم حينئذ تدخل فيهم .
الثالث : هو أن الضمير في قوله : ( وآية لهم ) عائد إلى العباد حيث قال : ( ياحسرة على العباد ) وقال بعد ذلك : ( وآية لهم الأرض ) وقال : ( وآية لهم الليل ) وقال : ( وآية لهم أنا حملنا ذريتهم ) إذا علم هذا فكأنه تعالى قال : وآية للعباد أنا حملنا ذريات العباد ، ولا يلزم أن يكون المراد بالضمير في الموضعين أشخاصا معينين ، كما قال تعالى : ( ولا تقتلوا أنفسكم ) ( النساء : 29 ) ويريد بعضهم بعضا ، وكذلك [ ص: 70 ] إذا تقاتل قوم ومات الكل في القتال ، يقال : هؤلاء القوم هم قتلوا أنفسهم ، فهم في الموضعين يكون عائدا إلى القوم ، ولا يكون المراد أشخاصا معينين ، بل المراد أن بعضهم قتل بعضا ، فكذلك قوله تعالى : ( وآية لهم ) أي آية لكل بعض منهم أنا حملنا ذرية على بعض منهم ، أو ذرية بعض منهم .
وأما إن قلنا : إن المراد جنس الفلك فهو أظهر ، لأن سفينة نوح لم تكن بحضرتهم ولم يعلموا من حمل فيها ، فأما جنس الفلك فإنه ظاهر لكل أحد ، وقوله تعالى في سفينةنوح : ( وجعلناها آية للعالمين ) ( العنكبوت : 15 ) أي بوجود جنسها ومثلها ، ويؤيده قوله تعالى : ( ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ) ( لقمان : 31 ) فنقول قوله تعالى : ( حملنا ذريتهم ) أي ذريات العباد ، ولم يقل : حملناهم ، لأن سكون الأرض عام لكل أحد يسكنها ، فقال : ( وآية لهم الأرض الميتة ) إلى أن قال : ( فمنه يأكلون ) لأن الأكل عام ، وأما الحمل في السفينة فمن الناس من لا يركبها في عمره ولا يحمل فيها ، ولكن ذرية العباد لا بد لهم من ذلك ، فإن فيهم من يحتاج إليها فيحمل فيها .
المسألة الثانية : جعل الفلك تارة جمعا حيث قال : ( وترى الفلك فيه مواخر ) ( فاطر : 12 ) وأخرى فردا حيث قال : ( في الفلك المشحون ) نقول : فيه تدقيق مليح من علم اللغة ، وهو أن الكلمة قد تكون حركتها مثل حركة تلك الكلمة في الصورة ، والحركتان مختلفتان في المعنى ، مثالها قولك : سجد يسجد سجودا للمصدر ، وهم قوم سجود في جمع ساجد ، تظن أنهما كلمة واحدة لمعنيين وليس كذلك ، بل السجود عند كونه مصدرا حركته أصلية إذا قلنا : إن الفعل مشتق من المصدر ، وحركة السجود عند كونه للجمع حركة متغيرة من حيث إن الجمع يشتق من الواحد ، وينبغي أن يلحق المشتق تغيير في حركة أو حرف أو في مجموعهما ، فساجد لما أردنا أن يشتق منه لفظ جمع غيرناه ، وجئنا بلفظ السجود ، فإذا السجود للمصدر والجمع ليس من قبيل الألفاظ المشتركة التي وضعت بحركة واحدة لمعنيين ، إذا عرفت هذا فنقول : الفلك عند كونه واحدا مثل قفل وبرد ، وعند كونها جمعا مثل خشب ومرد وغيرهما ، فإن قلت : فإذا جعلته جمعا ماذا يكون واحدها ؟ نقول : جاز أن يكون واحدها فلكة أو غيرها مما لم يستعمل كواحد النساء حيث لم يستعمل ، وكذا القول في : ( إمام مبين ) وفي قوله : ( ندعوا كل أناس بإمامهم ) ( الإسراء : 71 ) أي بأئمتهم عند قوله تعالى : ( إمام مبين ) إما كزمام وكتاب ، وعند قوله تعالى : ( كل أناس بإمامهم ) إمام كسهام وكرام وجعاب ، وهذا من دقيق التصريف .
وأما المعنوية : فنذكرها في مسائل :
المسألة الأولى : قال ههنا : ( حملنا ذريتهم ) من عليهم بحمل ذريتهم ، وقال تعالى : ( إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية ) ( الحاقة : 11 ) من هناك عليهم بحمل أنفسهم ، نقول : لأن من ينفع المتعلق بالغير يكون قد نفع ذلك الغير ، ومن يدفع الضرر على المتعلق بالغير لا يكون قد دفع الضرر عن ذلك الغير ، بل يكون قد نفعه ، مثاله : من أحسن إلى ولد إنسان وفرحه فرح بفرحه أبوه ، وإذا دفع واحد الألم عن ولد إنسان يكون قد فرح أباه ، ولا يكون في الحقيقة قد أزال الألم عن أبيه ، عند طغيان الماء كان الضرر يلحقهم ، فقال : دفعت عنكم الضرر ، ولو قال : دفعت عن أولادكم الضرر لما حصل بيان دفع الضرر عنهم ، وههنا أراد بيان المنافع ، فقال : ( حملنا ذريتهم ) [ ص: 71 ] لأن النفع حاصل بنفع الذرية ، ويدلك على هذا أن ههنا قال : ( في الفلك المشحون ) فإن امتلاء الفلك من الأموال يحصل بذكره بيان المنفعة ، وأما دفع المضرة فلا ، لأن الفلك كلما كان أثقل كان الخلاص به أبطأ وهنالك السلامة ، فاختار هنالك ما يدل على الخلاص من الضرر وهو الجري ، وههنا ما يدل على كمال المنفعة وهو الشحن ، فإن قيل : قال تعالى : ( وحملناهم في البر والبحر ) ( الإسراء : 70 ) ولم يقل : وحملنا ذريتهم مع أن المقصود في الموضعين بيان النعمة ، لا دفع النقمة ، نقول لما قال : ( في البر والبحر ) عم الخلق ، لأن ما من أحد إلا حمل في البر أو البحر ، وأما الحمل في البحر فلم يعم ، فقال : إن كنا ما حملناكم بأنفسكم فقد حملنا من يهمكم أمره من الأولاد والأقارب والإخوان والأصدقاء .
المسألة الثانية : قوله : ( المشحون ) يفيد فائدة أخرى غير ما ذكرنا ، وهي أن الآدمي يرسب في الماء ويغرق ، فحمله في الفلك واقع بقدرته ، لكن من الطبيعيين من يقول : الخفيف لا يرسب في الماء ؛ لأن الخفيف يطلب جهة فوق فقال : ( الفلك المشحون ) أثقل من الثقال التي ترسب ، ومع هذا حمل الله الإنسان فيه مع ثقله ، فإن قالوا ذلك لامتناع الخلاء ، نقول : قد ذكرنا الدلائل الدالة على جواز الخلاء في الكتب العقلية ، فإذن ليس حفظ الثقيل فوق الماء إلا بإرادة الله .
المسألة الثالثة : قال تعالى : ( وآية لهم الأرض ) وقال : ( وآية لهم الليل ) ولم يقل : وآية لهم الفلك جعلناها بحيث تحملهم ، وذلك لأن حملهم في الفلك هو العجب .
أما نفس الفلك فليس بعجب ؛ لأنه كبيت مبني من خشب .
وأما نفس الأرض فعجب ونفس الليل عجب لا قدرة عليهما لأحد إلا الله .