الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            وأما العقل فإنه عبارة عن العلوم البديهية ، وهذه العلوم هي رأس المال ، والنظر والفكر لا معنى له إلا ترتيب علوم ليتوصل بذلك الترتيب إلى تحصيل علوم كسبية ، فتلك العلوم البديهية المسماة بالعقل رأس المال وتركيبها على الوجوه المخصوصة يشبه تصرف التاجر في رأس المال ، وتركيبها على الوجوه بالبيع والشراء ، وحصول العلم بالنتيجة يشبه حصول الربح ، وأيضا حصول القدرة على الأعمال يشبه رأس المال ، واستعمال تلك القوة في تحصيل أعمال البر والخير يشبه تصرف التاجر في رأس المال ، وحصول أعمال الخير والبر يشبه الربح ، إذا ثبت هذا فنقول : إن من أعطاه الله الحياة والعقل والتمكن ، ثم إنه لم يستفد منها لا معرفة الحق ولا عمل الخير ألبتة كان محروما عن الربح بالكلية ، وإذا مات فقد ضاع رأس المال بالكلية ، فكان ذلك خسرانا ، فهذا بيان كونه خسرانا .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الثاني : وهو بيان كون ذلك الخسران مبينا ، فهو أن من لم يربح الزيادة ، ولكنه مع ذلك سلم من الآفات والمضار ، فهذا كما لم يحصل له مزيد نفع لم يحصل له أيضا مزيد ضرر ، أما هؤلاء الكفار فقد استعملوا عقولهم التي هي رأس مالهم في استخراج وجوه الشبهات ، وتقوية الجهالات والضلالات ، واستعملوا قواهم وقدرهم في أفعال الشر والباطل والفساد ، فهم قد جمعوا بين أمور في غاية الرداءة :

                                                                                                                                                                                                                                            أولها : أنهم أتعبوا أبدانهم وعقولهم طلبا في تلك العقائد الباطلة ، والأعمال الفاسدة .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 224 ] وثانيها : أنهم عند الموت يضيع عنهم رأس المال من غير فائدة .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن تلك المتاعب الشديدة التي كانت موجودة في الدنيا في نصرة تلك الضلالات تصير أسبابا للعقوبة الشديدة ، والبلاء العظيم بعد الموت . وعند الوقوف على هذه المعاني يظهر أنه لا يعقل خسران أقوى من خسرانهم ، ولا حرمان أعظم من حرمانهم ، ونعوذ بالله منه .

                                                                                                                                                                                                                                            ولما شرح الله تعالى أحوال حرمانهم عن الربح وبين كيفية خسرانهم ، بين أنهم لم يقتصروا على الحرمان والخسران ، بل ضموا إليه استحقاق العذاب العظيم والعقاب الشديد ، فقال : ( لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ) والمراد إحاطة النار بهم من جميع الجوانب ، ونظيره في الأحوال النفسانية إحاطة الجهل والحرمان والحرص وسائر الأخلاق الذميمة بالإنسان ، فإن قيل : الظلل ما على الإنسان ، فكيف سمي ما تحته بالظلل ؟ والجواب من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه من باب إطلاق اسم أحد الضدين على الآخر ، كقوله : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) [ الشورى : 40 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن الذي يكون تحته يكون ظلة لإنسان آخر تحته ، لأن النار دركات كما أن الجنة درجات .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : أن الظلة التحتانية إذا كانت مشابهة للظلة الفوقانية في الحرارة والإحراق والإيذاء أطلق اسم أحدهما على الآخر لأجل المماثلة والمشابهة .

                                                                                                                                                                                                                                            قال الحسن : هم بين طبقتين من النار ، لا يدرون ما فوقهم أكثر مما تحتهم ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : ( يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ) [ العنكبوت : 55 ] ، وقوله تعالى : ( لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش ) [ الأعراف : 41 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( ذلك يخوف الله به عباده ) أي ذلك الذي تقدم ذكره من وصف العذاب ، فقوله : ( ذلك ) مبتدأ ، وقوله : ( يخوف الله به عباده ) خبر ، وفي قوله : ( يخوف الله به عباده ) قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : التقدير : ذلك العذاب المعد للكفار هو الذي يخوف الله به عباده أي المؤمنين ، لأنا بينا أن لفظ العباد في القرآن مختص بأهل الإيمان ، وإنما كان تخويفا للمؤمنين لأجل أنهم إذا سمعوا أن حال الكفار ما تقدم خافوا فأخلصوا في التوحيد والطاعة .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : أن هذا الكلام في تقدير جواب عن سؤال ، لأنه يقال : إنه تعالى غني عن العالمين منزه عن الشهوة والانتقام وداعية الإيذاء ، فكيف يليق به أن يعذب هؤلاء المساكين إلى هذا الحد العظيم ، وأجيب عنه بأن المقصود منه تخويف الكفار والضلال عن الكفر والضلال ، فإذا كان التكليف لا يتم إلا بالتخويف ، والتخويف لا يكمل الانتفاع به إلا بإدخال ذلك الشيء في الوجود وجب إدخال ذلك النوع من العذاب في الوجود ؛ تحصيلا لذلك المطلوب الذي هو التكليف ، والوجه الأول عندي أقرب ، والدليل عليه أنه قال بعده : ( ياعباد فاتقون ) ، وقوله : ( ياعباد ) الأظهر منه أن المراد منه المؤمنون ، فكأنه قيل : المقصود من شرح عذاب الكفار للمؤمنين تخويف المؤمنين ، فيا أيها المؤمنون بالغوا في الخوف والحذر والتقوى .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية