الفائدة الأولى : وجوب النظر والاستدلال ، وذلك لأنه تعالى بين أن الهداية والفلاح مرتبطان بما إذا سمع الإنسان أشياء كثيرة ، فإنه يختار منها ما هو الأحسن الأصوب ، ومن المعلوم أن تمييز الأحسن الأصوب عما سواه لا يحصل بالسماع ، لأن السماع صار قدرا مشتركا بين الكل ، لأن قوله : ( الذين يستمعون القول ) يدل على أن السماع قدر مشترك فيه ، فثبت أن ، وهذا يدل على أن الموجب لاستحقاق المدح والثناء متابعة حجة العقل ، وبناء الأمر على النظر والاستدلال . تمييز الأحسن عما سواه لا يتأتى بالسماع ، وإنما يتأتى بحجة العقل
الفائدة الثانية : أن قسمان : الطريق إلى تصحيح المذاهب والأديان
أحدهما : إقامة الحجة والبينة على صحته على سبيل التحصيل ، وذلك أمر لا يمكن تحصيله إلا بالخوض في كل واحد من المسائل على التفصيل .
والثاني : أنا قبل البحث عن الدلائل وتقريرها والشبهات وتزييفها نعرض تلك المذاهب وأضدادها على عقولنا ، فكل ما حكم أول العقل بأنه أفضل وأكمل ، كان أولى بالقبول . مثاله : أن صريح العقل شاهد بأن الإقرار بأن إله العالم حي عالم قادر حليم ، حكيم رحيم أولى من إنكار ذلك ، فكان ذلك المذهب أولى ، والإقرار بأن الله تعالى لا يجري في ملكه وسلطانه إلا ما كان على وفق مشيئته أولى من القول بأن أكثر ما يجري في سلطان الله على خلاف إرادته ، وأيضا الإقرار بأن الله فرد أحد صمد منزه عن التركيب والأعضاء أولى من القول بكونه متبعضا مؤلفا ، وأيضا القول باستغنائه عن الزمان والمكان أولى من القول باحتياجه إليهما ، وأيضا القول بأن الله رحيم كريم قد يعفو عن العقاب أولى من القول بأنه لا يعفو عنه ألبتة ، وكل هذه [ ص: 228 ] الأبواب تدخل تحت قوله : ( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) فهذا . ما يتعلق باختيار الأحسن في أبواب الاعتقادات
وأما ما يتعلق بأبواب التكاليف فهو على قسمين : منها ما يكون من أبواب العبادات ، ومنها ما يكون من أبواب المعاملات ، فأما العبادات فمثل قولنا : الصلاة التي يذكر في تحريمها الله أكبر ، وتكون النية فيها مقارنة للتكبير ، ويقرأ فيها سورة الفاتحة ، ويؤتى فيها بالطمأنينة في المواقف الخمسة ، ويقرأ فيها التشهد ، ويخرج منها بقوله السلام عليكم ، فلا شك أنها أحسن من الصلاة التي لا يراعى فيها شيء من هذه الأحوال ، وتوجب على العاقل أن يختار هذه الصلاة ، وأن يترك ما سواها ، وكذلك القول في جميع أبواب العبادات .
وأما المعاملات فكذلك ، مثل أنه تعالى شرع القصاص والدية والعفو ، ولكنه ندب إلى العفو ، فقال : ( وأن تعفوا أقرب للتقوى ) [ البقرة : 237 ] وعن : أن المراد منه الرجل يجلس مع القوم ، ويسمع الحديث ، فيه محاسن ومساوئ ، فيحدث بأحسن ما سمع ويترك ما سواه . ابن عباس