[ ص: 23 ] ( سورة غافر )
ثمانون وخمس آيات مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
( حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار )
بسم الله الرحمن الرحيم
( حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار )
اعلم أن في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي "حم" بكسر الحاء ، والباقون بفتح الحاء ، ونافع في بعض الروايات وابن عامر ، بين الفتح والكسر وهو أن لا يفتحها فتحا شديدا ، قال صاحب "الكشاف" : قرئ بفتح الميم وتسكينها ، ووجه الفتح التحريك لالتقاء الساكنين وإيثار أخف الحركات نحو : أين وكيف ، أو النصب بإضمار اقرأ ، ومنع الصرف إما للتأنيث والتعريف ، من حيث أنها اسم للسورة وللتعريف ، وأنها على زنة أعجمي نحو قابيل وهابيل ، وأما السكون فلأنا بينا أن الأسماء تذكر موقوفة الأواخر . [ ص: 24 ] المسألة الثانية : الكلام المستقصى في هذه الفواتح مذكور في أول سورة البقرة ، والأقرب هاهنا أن يقال : حم " اسم للسورة ، فقوله : ( " حم ) مبتدأ ، وقوله : ( تنزيل الكتاب من الله ) خبر ، والتقدير أن هذه السورة المسماة بحم تنزيل الكتاب ، فقوله : ( تنزيل ) مصدر ، لكن المراد منه المنزل .
وأما قوله : ( من الله ) فاعلم أنه لما ذكر أن ( حم تنزيل الكتاب ) وجب بيان أن المنزل من هو؟ فقال : ( من الله ) ثم بين أن ليصير ذلك حاملا على التشمير عن ساق الجد عند الاستماع ، وزجره عن التهاون والتواني فيه ، فبين أن المنزل هو ( الله تعالى موصوف بصفات الجلال وسمات العظمة الله العزيز العليم ) .
واعلم أن الناس اختلفوا في أن ما هو؟ فقال جمع عظيم : إنه العلم بكونه قادرا وبعده العلم بكونه عالما ، إذا عرفت هذا فنقول : ( العلم بالله العزيز ) له تفسيران ؛ أحدهما : الغالب فيكون معناه القادر الذي لا يساويه أحد في القدرة . والثاني : الذي لا مثل له ، ولا يجوز أن يكون المراد بالعزيز هنا القادر ; لأن قوله تعالى : ( الله ) يدل على كونه قادرا ، فوجب حمل ( العزيز ) على المعنى الثاني وهو الذي لا يوجد له مثل ، وما كان كذلك وجب أن لا يكون جسما ، والذي لا يكون جسما يكون منزها عن الشهوة والنفرة ، والذي يكون كذلك يكون منزها عن الحاجة . وأما ( العليم ) فهو مبالغة في العلم ، والمبالغة التامة إنما تتحقق عند كونه تعالى عالما بكل المعلومات ، فقوله : ( من الله العزيز العليم ) يرجع معناه إلى أن هذا الكتاب تنزيل من القادر المطلق ، الغني المطلق ، العالم المطلق ، ومن كان كذلك كان عالما بوجوه المصالح والمفاسد ، وكان عالما بكونه غنيا عن جر المصالح ودفع المفاسد ، ومن كان كذلك كان رحيما جوادا ، وكانت أفعاله حكمة وصوابا منزهة عن القبيح والباطل ، فكأنه سبحانه إنما ذكر عقيب قوله : ( تنزيل ) هذه الأسماء الثلاثة لكونها دالة على أن أفعاله سبحانه حكمة وصواب ، ومتى كان الأمر كذلك لزم أن يكون هذا التنزيل حقا وصوابا ، وقيل : الفائدة في ذكر ( العزيز العليم ) أمران ; أحدهما : أنه بقدرته وعلمه أنزل القرآن على هذا الحد الذي يتضمن المصالح والإعجاز ، ولولا كونه عزيزا عليما لما صح ذلك . والثاني : أنه تكفل بحفظه وبعموم التكليف فيه وظهوره إلى حين انقطاع التكليف ، وذلك لا يتم إلا بكونه عزيزا لا يغلب وبكونه عليما لا يخفى عليه شيء ، ثم وصف نفسه بما يجمع الوعد والوعيد والترهيب والترغيب ، فقال : ( غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير ) فهذه ستة أنواع من الصفات :
الصفة الأولى : قوله : ( غافر الذنب ) قال الجبائي : معناه أنه غافر الذنب إذا استحق غفرانه إما بتوبة أو طاعة أعظم منه ، ومراده منه أن فاعل المعصية إما أن يقال : إنه كان قد أتى قبل ذلك بطاعة كان ثوابها أعظم من عقاب هذه المعصية ، أو ما كان الأمر كذلك ، فإن كان الأول كانت هذه المعصية صغيرة فيحبط عقابها ، وإن كان الثاني كانت هذه المعصية كبيرة فلا يزول عقابها إلا بالتوبة . ومذهب أصحابنا أن الله تعالى قد يعفو عن الكبيرة بعد التوبة ، وهذه الآية تدل على ذلك ، وبيانه من وجوه :
الأول : أن غفران الكبيرة بعد التوبة وغفران الصغيرة من الأمور الواجبة على العبد ، وجميع الأنبياء والأولياء والصالحين من أوساط الناس مشتركون في فعل الواجبات ، فلو حملنا كونه تعالى غافر الذنب على هذا المعنى لم يبق بينه وبين أقل الناس من زمرة المطيعين فرق في المعنى الموجب لهذا المدح ، وذلك باطل ، فثبت أنه يجب أن يكون المراد منه كونه غافر الكبائر قبل التوبة ، وهو المطلوب .
الثاني : أن الغفران عبارة عن الستر ومعنى الستر إنما يعقل في الشيء الذي [ ص: 25 ] يكون باقيا موجودا فيستر ، والصغيرة تحبط بسبب كثرة ثواب فاعلها ، فمعنى الغفر فيها غير معقول ، ولا يمكن حمل قوله : ( غافر الذنب ) على الكبيرة بعد التوبة ; لأن معنى كونه قابلا للتوب ليس إلا ذلك ، فلو كان المراد بكونه غافر الذنب هذا المعنى لزم التكرار وإنه باطل ، فثبت أن كونه غافر الذنب يفيد كونه غافرا للذنوب الكبائر قبل التوبة . الثالث : أن قوله : ( غافر الذنب ) مذكور في معرض المدح العظيم ، فوجب حمله على ما يفيد أعظم أنواع المدح ، وذلك هو كونه غافرا للكبائر قبل التوبة ، وهو المطلوب .
الصفة الثانية : قوله تعالى : ( قابل التوب ) وفيه بحثان :
الأول : في لفظ التوب قولان ؛ الأول : أنه مصدر وهو قول أبي عبيدة . والثاني : أنه جماعة التوبة وهو قول الأخفش . قال المبرد : يجوز أن يكون مصدرا ، يقال : تاب يتوب توبا وتوبة ، مثل قال يقول قولا وقولة ، ويجوز أن يكون جمعا لتوبة ، فيكون : توبة وتوب ، مثل تمرة وتمر ، إلا أن المصدر أقرب لأن على هذا التقدير يكون تأويله أنه يقبل هذا الفعل .
الثاني : مذهب أصحابنا أن ، وقالت قبول التوبة من المذنب يقع على سبيل التفضل ، وليس بواجب على الله المعتزلة : إنه واجب على الله ، واحتج أصحابنا بأنه تعالى ذكر كونه قابلا للتوب على سبيل المدح والثناء ، ولو كان ذلك من الواجبات لم يبق فيه من معنى المدح إلا القليل ، وهو القدر الذي يحصل لجميع الصالحين عند أداء الواجبات والاحتراز عن المحظورات .