واعلم أن العقل يدل أيضا على رعاية هذا الترتيب ، وذلك أن ذكر الله بالثناء والتعظيم بالنسبة إلى جوهر الروح كالإكسير الأعظم بالنسبة إلى النحاس ، فكما أن ذرة من الإكسير إذا وقعت على عالم من النحاس انقلب الكل ذهبا إبريزا ، فكذلك إذا وقعت ذرة من إكسير معرفة جلال الله تعالى على جوهر الروح النطقية ، انقلب من نحوسة النحاسة إلى صفاء القدس وبقاء عالم الطهارة ، فثبت أن عند إشراق نور معرفة الله تعالى في جواهر الروح ، يصير الروح أقوى صفاء وأكمل إشراقا ، ومتى صار كذلك كانت قوته أقوى وتأثيره أكمل ، فكان حصول الشيء المطلوب بالدعاء أقرب وأكمل ، وهذا هو . السبب في تقديم الثناء على الله على الدعاء
المسألة الثالثة : اعلم أن الملائكة وصفوا الله تعالى بثلاثة أنواع من الصفات : الربوبية والرحمة والعلم ، أما الربوبية فهي إشارة إلى الإيجاد والإبداع ، وفيه لطيفة أخرى وهي أن قولهم : ( ربنا ) إشارة إلى التربية ، والتربية عبارة عن إبقاء الشيء على أكمل أحواله وأحسن صفاته ، وهذا يدل على أن هذه الممكنات ، كما أنها محتاجة حال حدوثها إلى إحداث الحق سبحانه وتعالى وإيجاده ، فكذلك إنها محتاجة حال بقائها إلى إبقاء الله ، وأما الرحمة فهي إشارة إلى أن جانب الخير والرحمة والإحسان راجح على جانب الضر ، وأنه تعالى إنما خلق الخلق للرحمة والخير ، لا للإضرار والشر ، فإن قيل : قوله : ( ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما ) فيه سؤال ; لأن العلم وسع كل شيء ، أما الرحمة فما وصلت إلى كل شيء ; لأن المضرور حال وقوعه في الضر ، لا يكون ذلك الضرر رحمة ، وهذا السؤال أيضا مذكور في قوله : ( ورحمتي وسعت كل شيء ) قلنا : كل وجود فقد نال من رحمة الله تعالى نصيبا ; وذلك لأن الموجود إما واجب وإما ممكن ، أما الواجب فليس إلا الله سبحانه وتعالى ، وأما الممكن فوجوده من الله تعالى وبإيجاده ، وذلك رحمة ، فثبت أنه لا موجود غير الله إلا وقد وصل إليه نصيب ونصاب من رحمة الله ، فلهذا قال : ( ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما ) وفي الآية دقيقة أخرى ، وهي أن الملائكة قدموا ذكر الرحمة على ذكر العلم فقالوا : ( ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما ) وذلك لأن مطلوبهم إيصال الرحمة وأن يتجاوز عما علمه منهم من أنواع الذنوب ، فالمطلوب بالذات هو الرحمة ، والمطلوب بالعرض أن يتجاوز عما علمه منهم ، والمطلوب بالذات مقدم على [ ص: 33 ] المطلوب بالعرض ، ألا ترى أنه لما كان إبقاء الصحة مطلوبا بالذات وإزالة المرض مطلوبا بالعرض ، لا جرم لما ذكروا حد الطب قدموا فيه حفظ الصحة على إزالة المرض ، فقالوا : الطب علم يتعرف منه أحوال بدن الإنسان من جهة ما يصلح ويزول عن الصحة لتحفظ الصحة حاصلة وتسترد زائلة ، فكذا هاهنا المطلوب بالذات هو الرحمة ، وأما التجاوز عما علمه منهم من أنواع الذنوب فهو مطلوب بالعرض ; لأجل أن حصول الرحمة على سبيل الكمال لا يحصل إلا بالتجاوز عن الذنوب ، فلهذا السبب وقع ذكر الرحمة سابقا على ذكر العلم .
المسألة الرابعة : دلت هذه الآية على أن المقصود بالقصة الأولى في الخلق والتكوين إنما هو الرحمة والفضل والجود والكرم ، ودلت الدلائل اليقينية على أن ، والجمع بين هذين الأصلين في غاية الصعوبة ، فعند هذا قالت الحكماء : الخير مراد مرضي ، والشر مراد مكروه ، والخير مقضي به بالذات ، والشر مقضي به بالعرض ، وفيه غور عظيم . كل ما دخل في الوجود من أنواع الخير والشر والسعادة والشقاوة فبقضاء الله وقدره
المسألة الخامسة : قوله : ( وسعت كل شيء رحمة وعلما ) يدل على التي لا نهاية لها من الكليات والجزئيات ، وأيضا فلولا ذلك لم يكن في الدعاء والتضرع فائدة ; لأنه إذا جاز أن يخرج عن علمه بعض الأشياء ، فعلى هذا التقدير لا يعرف هذا الداعي أن الله سبحانه يعلمه ويعلم دعاءه ، وعلى هذا التقدير لا يبقى في الدعاء فائدة البتة . كونه سبحانه عالما بجميع المعلومات
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم كيفية ثنائهم على الله تعالى حكى عنهم كيفية دعائهم ، وهو أنهم قالوا : ( فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ) واعلم أن ، فالمطلوب الأول الغفران ، وقد سبق تفسيره في قوله : ( الملائكة طلبوا بالدعاء من الله تعالى أشياء كثيرة للمؤمنين فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك ) فإن قيل : لا معنى للغفران إلا إسقاط العذاب ، وعلى هذا التقدير فلا فرق بين قوله : فاغفر لهم ، وبين قوله : ( وقهم عذاب الجحيم ) قلنا : دلالة لفظ المغفرة على إسقاط عذاب الجحيم دلالة حاصلة على الرمز والإشارة ، فلما ذكروا هذا الدعاء على سبيل الرمز والإشارة أردفوه بذكره على سبيل التصريح لأجل التأكيد والمبالغة ، واعلم أنهم لما طلبوا من الله إزالة العذاب عنهم أردفوه بأن طلبوا من الله إيصال الثواب إليهم فقالوا : ( ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ) فإن قيل : أنتم زعمتم أن هذه الشفاعة إنما حصلت للمذنبين وهذه الآية تبطل ذلك ; لأنه تعالى ما وعد المذنبين بأن يدخلهم في جنات عدن ، قلنا : لا نسلم أنه ما وعدهم بذلك ; لأنا بينا أن الدلائل الكثيرة في القرآن دلت على أنه تعالى محمد رسول الله في النار ، وإذا أخرجهم من النار وجب أن يدخلهم الجنة ، فكان هذا وعدا من الله تعالى لهم بأن يدخلهم في جنات عدن ، إما من غير دخول النار وإما بعد أن يدخلهم النار . قال تعالى : ( لا يخلد أهل لا إله إلا الله ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ) يعني وأدخل معهم في الجنة هؤلاء الطوائف الثلاث ، وهم الصالحون من الآباء والأزواج والذريات ، وذلك لأن الرجل إذا حضر معه في وضع عيشه وسروره أهله وعشيرته كان ابتهاجه أكمل ، قال الفراء والزجاج : "من صلح" نصب من مكانين فإن شئت رددته على الضمير في قوله : ( وأدخلهم ) وإن شئت في ( وعدتهم ) والمراد من قوله : ( ومن صلح ) أهل الإيمان .
ثم قالوا : ( إنك أنت العزيز الحكيم ) وإنما ذكروا في دعائهم هذين الوصفين ; لأنه لو لم يكن عزيزا بل كان بحيث يغلب ويمنع لما [ ص: 34 ] صح وقوع المطلوب منه ، ولو لم يكن حكيما لما حصل هذا المطلوب على وفق الحكمة والمصلحة ، ثم قالوا بعد ذلك : ( وقهم السيئات ) قال بعضهم : المراد وقهم عذاب السيئات ، فإن قيل : فعلى هذا التقدير لا فرق بين قوله : ( وقهم السيئات ) وبين ما تقدم من قوله : ( وقهم عذاب الجحيم ) وحينئذ يلزم التكرار الخالي عن الفائدة ، وإنه لا يجوز ، قلنا : بل التفاوت حاصل من وجهين ; الأول : أن يكون قوله : ( وقهم عذاب الجحيم ) دعاء مذكورا للأصول وقوله : ( وقهم السيئات ) دعاء مذكورا للفروع . الثاني : أن يكون قوله : ( وقهم عذاب الجحيم ) مقصورا على إزالة الجحيم وقوله : ( وقهم السيئات ) يتناول عذاب الجحيم وعذاب موقف القيامة وعذاب الحساب والسؤال .
والقول الثاني في تفسير قوله : ( وقهم السيئات ) هو أن الملائكة طلبوا إزالة عذاب النار بقولهم : ( وقهم عذاب الجحيم ) وطلبوا إيصال ثواب الجنة إليهم بقولهم : ( وأدخلهم جنات عدن ) ثم طلبوا بعد ذلك أن يصونهم الله تعالى في الدنيا عن العقائد الفاسدة والأعمال الفاسدة ، وهو المراد بقولهم : ( وقهم السيئات ) ثم قالوا : ( ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته ) يعني ومن تق السيئات في الدنيا فقد رحمته في يوم القيامة ، ثم قالوا : ( وذلك هو الفوز العظيم ) حيث وجدوا بأعمال منقطعة نعيما لا ينقطع ، وبأعمال حقيرة ملكا لا تصل العقول إلى كنه جلالته .