الصفة الرابعة : قوله تعالى : ( لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ) والتقدير يوم ينادى فيه : لمن الملك اليوم؟ وهذا النداء في أي الأوقات يحصل فيه ، قولان :
الأول : قال المفسرون إذا هلك كل من في السماوات ومن في الأرض فيقول الرب تعالى : ( لمن الملك اليوم ) ؟ يعني يوم القيامة ، فلا يجيبه أحد ، فهو تعالى يجيب نفسه فيقول : ( لله الواحد القهار ) قال أهل الأصول : هذا القول ضعيف وبيانه من وجوه :
الأول : أنه تعالى بين أن هذا النداء إنما يحصل يوم التلاق ، ويوم البروز ، ويوم تجزى كل نفس بما كسبت ، والناس في ذلك الوقت أحياء ، فبطل قولهم : إن الله تعالى إنما ينادي بهذا النداء حين هلك كل من في السماوات والأرض .
والثاني : أن الكلام لا بد فيه من فائدة ; لأن الكلام إما أن يذكر حال حضور الغير ، أو حال ما لا يحضر الغير ، والأول : باطل هاهنا ; لأن القوم قالوا : إنه تعالى إنما يذكر هذا الكلام عند فناء الكل ، والثاني أيضا باطل لأن الرجل إنما يحسن تكلمه حال كونه وحده ; إما لأنه يحفظ به شيئا كالذي يكرر على الدرس ، وذلك على الله محال ، أو لأجل أنه يحصل سرور بما يقوله ، وذلك أيضا على الله محال ، أو لأجل أن يعبد الله بذلك الذكر ، وذلك أيضا على الله محال ، فثبت أن قول من يقول : إن الله تعالى يذكر هذا النداء حال هلاك جميع المخلوقات ، باطل لا أصل له .
والقول الثاني : أن في إذا حضر الأولون والآخرون وبرزوا لله نادى مناد ( يوم التلاق لمن الملك اليوم ) فيقول كل الحاضرين في محفل القيامة : ( لله الواحد القهار ) فالمؤمنون يقولون تلذذا بهذا الكلام ، حيث نالوا بهذا الذكر المنزلة الرفيعة ، والكفار يقولونه على الصغار والذلة على وجه التحسر والندامة على أن فاتهم هذا الذكر في الدنيا ، وقال القائلون بهذا القول : إن صح القول الأول عن وغيره ، لم يمتنع أن يكون [ ص: 42 ] المراد أن هذا النداء يذكر بعد فناء البشر إلا أنه حضر هناك ملائكة يسمعون ذلك النداء ، وأقول أيضا على هذا القول : لا يبعد أن يكون السائل والمجيب هو الله تعالى ، ولا يبعد أيضا أن يكون السائل جمعا من الملائكة والمجيب جمعا آخرين ، الكل ممكن وليس على التعيين دليل ، فإن قيل : وما الفائدة في تخصيص هذا اليوم بهذا النداء؟ ابن عباس
فنقول : الناس كانوا مغرورين في الدنيا بالأسباب الظاهرة ، وكان الشيخ الإمام الوالد عمر رضي الله عنه يقول : لولا الأسباب لما ارتاب مرتاب ، وفي يوم القيامة زالت الأسباب ، وانعزلت الأرباب ، ولم يبق البتة غير حكم مسبب الأسباب ; فلهذا اختص النداء بيوم القيامة ، واعلم أنه وإن كان ظاهر اللفظ يدل على اختصاص ذلك النداء بذلك اليوم إلا أن قوله : ( لله الواحد القهار ) يفيد أن هذا النداء حاصل من جهة المعنى أبدا ، وذلك لأن قولنا : (الله) اسم لواجب الوجود لذاته ، وواجب الوجود لذاته واحد وكل ما سواه ممكن لذاته ، والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته ، ومعنى الإيجاد هو ترجيح جانب الوجود على جانب العدم ، وذلك الترجيح هو قهر للجانب المرجوح ، فثبت أن الإله القهار واحد أبدا ، ونداء ( لمن الملك اليوم ) إنما ظهر من كونه واحدا قهارا ، فإذا كان كونه قهارا باقيا من الأزل إلى الأبد لا جرم كان نداء ( لمن الملك اليوم ) باقيا في جانب المعنى من الأزل إلى الأبد .
الصفة الخامسة من صفات ذلك اليوم قوله : ( اليوم تجزى كل نفس بما كسبت ) .