( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب )
قوله تعالى : ( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب )
واعلم أنه تعالى لما سلى رسوله بذكر الكفار الذين كذبوا الأنبياء قبله وبمشاهدة آثارهم ، سلاه أيضا بذكر موسى عليه السلام ، وأنه مع قوة معجزاته بعثه إلى فرعون وهامان وقارون فكذبوه وكابروه ، وقالوا : هو ساحر كذاب .
واعلم أن موسى عليه السلام ، لما جاءهم بتلك المعجزات الباهرة وبالنبوة ، وهي المراد بقوله : ( فلما جاءهم بالحق من عندنا ) حكى الله تعالى عنهم ما صدر عنهم من الجهالات . فالأول : أنهم وصفوه بكونه [ ص: 48 ] ساحرا كذابا ، وهذا في غاية البعد ; لأن تلك المعجزات كانت قد بلغت في القوة والظهور إلى حيث يشهد كل ذي عقل سليم بأنه ليس من السحر البتة . الثاني : أنهم قالوا : ( اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم ) والصحيح أن هذا القتل غير القتل الذي وقع في وقت ولادة موسى عليه السلام ; لأن في ذلك الوقت أخبره المنجمون بولادة عدو له يظهر عليه ، فأمر بقتل الأولاد في ذلك الوقت ، وأما في هذا الوقت فموسى عليه السلام قد جاءه وأظهر المعجزات الظاهرة ، فعند هذا أمر بقتل أبناء الذين آمنوا معه ; لئلا ينشئوا على دين موسى فيقوى بهم ، وهذه العلة مختصة بالبنين دون البنات ، فلهذا السبب أمر بقتل الأبناء .
ثم قال تعالى : ( وما كيد الكافرين إلا في ضلال ) ومعناه أن جميع ما يسعون فيه من مكايدة موسى ومكايدة من آمن معه يبطل ; لأن ( ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها ) [فاطر : 2] . النوع الثالث من قبائح أفعال أولئك الكفار مع موسى عليه السلام ما حكاه الله تعالى : ( وقال فرعون ذروني أقتل موسى ) وهذا الكلام كالدلالة على أنهم كانوا يمنعونه من قتله ، وفيه احتمالان :
والاحتمال الأول : أنهم منعوه من قتله لوجوه ; الأول : لعله كان فيهم من يعتقد بقلبه كون موسى صادقا ، فيأتي بوجوه الحيل في منع فرعون من قتله . الثاني : قال الحسن : إن أصحابه قالوا له : لا تقتله فإنما هو ساحر ضعيف ولا يمكنه أن يغلب سحرتك ، وإن قتلته أدخلت الشبهة على الناس وقالوا : إنه كان محقا وعجزوا عن جوابه فقتلوه . الثالث : لعلهم كانوا يحتالون في منعه من قتله ; لأجل أن يبقى فرعون مشغول القلب بموسى فلا يتفرغ لتأديب أولئك الأقوام ، فإن من شأن الأمراء أن يشغلوا قلب ملكهم بخصم خارجي حتى يصيروا آمنين من شر ذلك الملك .
والاحتمال الثاني : أن أحدا ما منع فرعون من قتل موسى ، وأنه كان يريد أن يقتله إلا أنه كان خائفا من أنه لو حاول قتله لظهرت معجزات قاهرة تمنعه من قتله فيفتضح ، إلا أنه لوقاحته قال : ( ذروني أقتل موسى ) وغرضه منه أنه إنما امتنع عن قتله رعاية لقلوب أصحابه ، وغرضه منه إخفاء خوفه .
أما قوله : ( وليدع ربه ) فإنما ذكره على سبيل الاستهزاء يعني أني أقتله فليقل لربه حتى يخلصه مني .
وأما قوله : ( إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : فتح ابن كثير الياء من قوله : ( ذروني ) وفتح نافع وابن كثير وأبو عمرو الياء من ( إني أخاف ) وأيضا قرأ نافع "وأن يظهروا" بالواو وبحذف (أو) يعني أنه يجمع بين تبديل الدين وبين إظهار المفاسد ، والذين قرءوا بصيغة (أو) فمعناه أنه لا بد من وقوع أحد الأمرين وقرئ " يظهر " بضم الياء وكسر الهاء و (الفساد) بالنصب على التعدية ، وقرأ وابن عمر حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بلفظ (أو يظهر) بفتح الياء والهاء ، و (الفساد) بالرفع ، أما وجه القراءة الأولى فهو أنه أسند الفعل إلىموسى في قوله : ( يبدل ) فكذلك في (يظهر) ليكون الكلام على نسق واحد ، وأما وجه القراءة الثانية فهو أنه إذا بدل الدين فقد ظهر الفساد الحاصل بسبب ذلك التبديل .
المسألة الثانية : المقصود من هذا الكلام بيان السبب الموجب لقتله وهو أن وجوده يوجب إما فساد الدين أو فساد الدنيا ، أما فساد الدين فلأن القوم اعتقدوا أن الدين الصحيح هو الذي كانوا عليه ، فلما كان [ ص: 49 ] موسى ساعيا في إفساده كان في اعتقادهم أنه ساع في إفساد الدين الحق ، وأما فساد الدنيا فهو أنه لا بد وأن يجتمع عليه قوم ويصير ذلك سببا لوقوع الخصومات وإثارة الفتن ، ولما كان حب الناس لأديانهم فوق حبهم لأموالهم لا جرم بدأ فرعون بذكر الدين فقال : ( إني أخاف أن يبدل دينكم ) ثم أتبعه بذكر فساد الدنيا فقال : ( أو أن يظهر في الأرض الفساد ) .