( وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار [ ص: 60 ] تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد )
وقوله تعالى : ( وقال الذي آمن ياقوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد ياقوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد )
اعلم أن هذا من بقية كلام الذي آمن من آل فرعون ، وقد كان يدعوهم إلى الإيمان بموسى والتمسك بطريقته . واعلم أنه نادى في قومه ثلاث مرات : في المرة الأولى دعاهم إلى قبول ذلك الدين على سبيل الإجمال ، وفي المرتين الباقيتين على سبيل التفصيل .
أما الإجمال فهو قوله : ( ياقوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد ) وليس المراد بقوله : ( اتبعون ) طريقة التقليد ; لأنه قال بعده : ( أهدكم سبيل الرشاد ) والهدي هو الدلالة ، ومن بين الأدلة للغير يوصف بأنه هداه ، وسبيل الرشاد هو سبيل الثواب والخير وما يؤدي إليه ; لأن الرشاد نقيض الغي ، وفيه تصريح بأن ما عليه فرعون وقومه هو سبيل الغي .
وأما التفصيل فهو أنه بين حقارة حال الدنيا وكمال حال الآخرة ، أما فهي قوله : ( حقارة الدنيا ياقوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع ) والمعنى أنه يستمتع بهذه الحياة الدنيا في أيام قليلة ، ثم تنقطع وتزول ، وأما الآخرة فهي دار القرار والبقاء والدوام ، وحاصل الكلام أن الآخرة باقية دائمة ، والدنيا منقضية منقرضة ، والدائم خير من المنقضي ، وقال بعض العارفين : لو كانت الدنيا ذهبا فانيا ، والآخرة خزفا باقيا ، لكانت الآخرة خيرا من الدنيا ، فكيف والدنيا خزف فان ، والآخرة ذهب باق .
واعلم أن الآخرة كما أن النعيم فيها دائم فكذلك العذاب فيها دائم ، وأن الترغيب في النعيم الدائم والترهيب عن العذاب الدائم من أقوى وجوه الترغيب والترهيب ، ثم بين كيف تحصل المجازاة في الآخرة ، وأشار فيه إلى أن جانب الرحمة غالب على جانب العقاب فقال : ( من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ) والمراد بالمثل ما يقابلها في الاستحقاق ، فإن قيل : كيف يصح هذا الكلام ، مع أن كفر ساعة يوجب عقاب الأبد؟ قلنا : إن الكافر يعتقد في كفره كونه طاعة وإيمانا ; فلهذا السبب يكون الكافر على عزم أن يبقى مصرا على ذلك الاعتقاد أبدا ، فلا جرم كان عقابه مؤبدا بخلاف الفاسق فإنه يعتقد فيه كونه خيانة ومعصية فيكون على عزم [ ص: 61 ] أن لا يبقى مصرا عليه ، فلا جرم قلنا أن عقاب الفاسق منقطع . أما الذي يقوله المعتزلة من أن عقابه مؤبد فهو باطل ; لأن مدة تلك المعصية منقطعة والعزم على الإتيان بها أيضا ليس دائما بل منقطعا ، فمقابلته بعقاب دائم يكون على خلاف قوله : ( من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ) ، واعلم أن هذه الآية أصل كبير في علوم الشريعة فيما يتعلق بأحكام الجنايات فإنها تقتضي أن يكون المثل مشروعا ، وأن يكون الزائد على المثل غير مشروع ، ثم نقول : ليس في الآية بيان أن تلك المماثلة معتبرة في أي الأمور فلو حملناه على رعاية المماثلة في شيء معين ، مع أن ذلك المعين غير مذكور في الآية صارت الآية مجملة ، ولو حملناه على رعاية المماثلة في جميع الأمور صارت الآية عاما مخصوصا ، وقد ثبت في أصول الفقه أن التعارض إذا وقع بين الإجمال وبين التخصيص كان دفع الإجمال أولى فوجب أن تحمل هذه الآية على رعاية المماثلة من كل الوجوه إلا في مواضع التخصيص ، وإذا ثبت هذا فالأحكام الكثيرة في باب الجنايات على النفوس ، وعلى الأعضاء ، وعلى الأموال يمكن تفريعها على هذه الآية .
ثم نقول : إنه تعالى لما بين أن جزاء السيئة مقصور على المثل بين أن جزاء الحسنة غير مقصور على المثل بل هو خارج عن الحساب فقال : ( ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب ) واحتج أصحابنا بهذه الآية فقالوا : قوله ( ومن عمل صالحا ) نكرة في معرض الشرط في جانب الإثبات فجرى مجرى أن يقال : من ذكر كلمة أو من خطا خطوة فله كذا ، فإنه يدخل فيه كل من أتى بتلك الكلمة أو بتلك الخطوة مرة واحدة ، فكذلك هاهنا وجب أن يقال : كل من عمل صالحا واحدا من الصالحات فإنه يدخل الجنة ويرزق فيها بغير حساب ، والآتي بالإيمان والمواظب على التوحيد والتقديس مدة ثمانين سنة قد أتى بأعظم الصالحات وبأحسن الطاعات ، فوجب أن يدخل الجنة ، والخصم يقول : إنه يبقى مخلدا في النار أبد الآباد فكان ذلك على خلاف هذا النص الصريح . قالت المعتزلة : إنه تعالى شرط فيه كونه مؤمنا عندنا ليس بمؤمن فلا يدخل في هذا الوعد . والجواب : أنا بينا في أول سورة البقرة في تفسير قوله تعالى : ( وصاحب الكبيرة الذين يؤمنون بالغيب ) [البقرة : 30] أن صاحب الكبيرة مؤمن فسقط هذا الكلام ، واختلفوا في تفسير قوله : ( يرزقون فيها بغير حساب ) فمنهم من قال : لما كان لا نهاية لذلك الثواب قيل بغير حساب ، وقال الآخرون : لأنه تعالى يعطيهم ثواب أعمالهم ويضم إلى ذلك الثواب من أقسام التفضل ما يخرج عن الحساب وقوله : ( بغير حساب ) واقع في مقابلة ( إلا مثلها ) يعني أن جزاء السيئة له حساب وتقدير ; لئلا يزيد على الاستحقاق ، فأما جزاء العمل الصالح فبغير تقدير وحساب بل ما شئت من الزيادة على الحق والكثرة والسعة ، وأقول هذا يدل على أن ، فإذا عارضنا عمومات الوعد بعمومات الوعيد ، وجب أن يكون الترجيح بجانب عمومات الوعد ، وذلك يهدم قواعد جانب الرحمة والفضل راجح على جانب القهر والعقاب المعتزلة ، ثم استأنف ذلك المؤمن ونادى في المرة الثالثة وقال : ( يا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار ) يعني أنا أدعوكم إلى الإيمان الذي يوجب النجاة وتدعونني إلى الكفر الذي يوجب النار ، فإن قيل : لم كرر نداء قومه ، ولم جاء بالواو في النداء الثالث دون الثاني؟ قلنا : أما تكرير النداء ففيه زيادة تنبيه لهم وإيقاظ من سنة الغفلة ، وإظهار أن له بهذا [ ص: 62 ] المهم مزيد اهتمام ، وعلى أولئك الأقوام فرط شفقة ، وأما المجيء بالواو العاطفة فلأن الثاني يقرب من أن يكون عين الأول ; لأن الثاني بيان للأول والبيان عين المبين ، وأما الثالث فلأنه كلام مباين للأول والثاني فحسن إيراد الواو العاطفة فيه ، ولما ذكر هذا المؤمن أنه يدعوهم إلى النجاة وهم يدعونه إلى النار ، فسر ذلك بأنهم يدعونه إلى الكفر بالله وإلى الشرك به ، أما الكفر بالله فلأن الأكثرين من قوم فرعون كانوا ينكرون وجود الإله ، ومنهم من كان يقر بوجود الله إلا أنه كان يثبت عبادة الأصنام ، وقوله تعالى : ( وأشرك به ما ليس لي به علم ) المراد بنفي العلم نفي المعلوم ، كأنه قال : وأشرك به ما ليس بإله وما ليس بإله كيف يعقل جعله شريكا للإله؟ ولما بين أنهم يدعونه إلى الكفر والشرك بين أنه يدعوهم إلى الإيمان بالعزيز الغفار فقوله : ( العزيز ) إشارة إلى كونه كامل القدرة ، وفيه تنبيه على أن الإله هو الذي يكون كامل القدرة ، وأما فرعون فهو في غاية العجز فكيف يكون إلها ، وأما الأصنام فإنها أحجار منحوتة فكيف يعقل القول بكونها آلهة وقوله : ( الغفار ) إشارة إلى أنه لا يجب أن يكونوا آيسين من رحمة الله بسبب إصرارهم على الكفر مدة مديدة ، فإن إله العالم وإن كان عزيزا لا يغلب قادرا لا يغالب ، لكنه غفار يغفر كفر سبعين سنة بإيمان ساعة واحدة ، ثم قال ذلك المؤمن : ( لا جرم ) والكلام في تفسير لا جرم مر في سورة هود في قوله : ( لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ) [هود : 22] وقد أعاده صاحب "الكشاف" هاهنا فقال : ( لا جرم ) مساقه على مذهب البصريين أن يجعل ( لا ) ردا لما دعاه إليه قومه و ( جرم ) فعل بمعنى حق و ( أنما ) مع ما في حيزه فاعله أي حق ، ووجب بطلان دعوته ، أو بمعنى كسب من قوله تعالى : ( ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا ) [المائدة : 2] أي كسب ذلك الدعاء إليه بطلان دعوته بمعنى أنه ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته ، ويجوز أن يقال : إن ( لا جرم ) نظيره لا بد فعل من الجرم وهو القطع كما أن بد فعل من التبديد وهو التفريق ، وكما أن معنى لا بد أنك تفعل كذا أنه لا بد لك من فعله ، فكذلك ( لا جرم أن لهم النار ) أي لا قطع لذلك بمعنى أنهم أبدا يستحقون النار لا انقطاع لاستحقاقهم ، ولا قطع لبطلان دعوة الأصنام ، أي لا تزال باطلة لا ينقطع ذلك فينقل حقا ، وروي عن بعض العرب لا جرم أنه يفعل بضم الجيم وسكون الراء بزنة بد وفعل إخوان كرشد ورشد وكعدم وعدم هذا كله ألفاظ صاحب "الكشاف" .
ثم قال : ( أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة ) والمراد أن الأوثان التي تدعونني إلى عبادتها ليس لها دعوة في الدنيا ولا في الآخرة ، وفي تفسير هذه الدعوة احتمالان :
الأول : أن المعنى ما تدعونني إلى عبادته ليس له دعوة إلى نفسه ; لأنها جمادات والجمادات لا تدعو أحدا إلى عبادة نفسها وقوله : ( في الآخرة ) يعني أنه تعالى إذا قلبها حيوانا في الآخرة فإنها تتبرأ من هؤلاء العابدين .
والاحتمال الثاني : أن يكون قوله : ( ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة ) معناه ليس له استجابة دعوة في الدنيا ولا في الآخرة ، فسميت استجابة الدعوة بالدعوة إطلاقا لاسم أحد المتضايفين على الآخر ، كقوله : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) ثم قال : ( وأن مردنا إلى الله ) فبين أن هذه الأصنام لا فائدة فيها البتة ، ومع ذلك [ ص: 63 ] فإن مردنا إلى الله العالم بكل المعلومات القادر على كل الممكنات الغني عن كل الحاجات الذي لا يبدل القول لديه وما هو بظلام للعبيد ، فأي عاقل يجوز له عقله أن يشتغل بعبادة تلك الأشياء الباطلة ، وأن يعرض عن عبادة هذا الإله الذي لا بد وأن يكون مرده إليه؟ وقوله : ( وأن المسرفين هم أصحاب النار ) قال قتادة : يعني المشركين ، وقال : السفاكين للدماء والصحيح أنهم أسرفوا في معصية الله بالكمية والكيفية ، أما الكمية فبالدوام ، وأما الكيفية فبالعود والإصرار ، ولما بالغ مؤمن آل فرعون في هذه البيانات ختم كلامه بخاتمة لطيفة فقال : ( مجاهد فستذكرون ما أقول لكم ) وهذا كلام مبهم يوجب التخويف ويحتمل أن يكون المراد أن هذا الذكر يحصل في الدنيا وهو وقت الموت ، وأن يكون في القيامة وقت مشاهدة الأهوال ، وبالجملة فهو تحذير شديد ، ثم قال : ( وأفوض أمري إلى الله ) وهذا كلام من هدد بأمر يخافه فكأنهم خوفوه بالقتل وهو أيضا خوفهم بقوله : ( فستذكرون ما أقول لكم ) ثم عول في دفع تخويفهم وكيدهم ومكرهم على فضل الله تعالى فقال : ( وأفوض أمري إلى الله ) وهو إنما تعلم هذه الطريقة من موسى عليه السلام ، فإن فرعون لما خوفه بالقتل رجع موسى في دفع ذلك الشر إلى الله حيث قال : ( إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب ) فتح نافع وأبو عمرو الياء من "أمري" والباقون بالإسكان .
ثم قال : ( إن الله بصير بالعباد ) أي عالم بأحوالهم وبمقادير حاجاتهم ، وتمسك أصحابنا بقوله تعالى : ( وأفوض أمري إلى الله ) على أن الكل من الله ، وقالوا : إن المعتزلة الذين قالوا : إن الخير والشر يحصل بقدرتهم قد فوضوا أمر أنفسهم إليهم وما فوضوها إلى الله ، والمعتزلة تمسكوا بهذه الآية فقالوا : إن قوله : ( أفوض ) اعتراف بكونه فاعلا مستقلا بالفعل ، والمباحث المذكورة في قوله : ( أعوذ بالله ) عائدة بتمامها في هذا الموضع . وهاهنا آخر كلام مؤمن آل فرعون . والله الهادي .