( أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون )
ثم قال تعالى : ( أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ما وجه التعلق والمناسبة بين الكلامين ؟ قلنا يبين ذلك ببيان المراد من قوله ( أم يريدون كيدا ) فبعض المفسرين قال أم يريدون أن يكيدوك فهم المكيدون ، أي لا يقدرون على الكيد فإن الله يصونك بعينه وينصرك بصونه ، وعلى هذا إذا قلنا بقول من يقول ( أم عندهم الغيب ) متصل بقوله تعالى : ( نتربص به ريب المنون ) فيه ترتيب في غاية الحسن وهو أنهم لما قالوا ( نتربص به ريب المنون ) قيل لهم أتعلمون الغيب فتعلمون أنه يموت قبلكم ، أم تريدون كيدا فتقولون نقتله فيموت قبلنا ؟ فإن كنتم تدعون الغيب فأنتم كاذبون ، وإن كنتم تظنون أنكم تقدرون عليه فأنتم غالطون فإن الله يصونه عنكم وينصره عليكم ، وأما على ما قلنا إن المراد منه أنه صلى الله عليه وسلم لا يسألكم على الهداية مالا وأنتم لا تعلمون ما جاء به لولا هدايته لكونه من الغيوب ، فنقول فيه وجوه :
الأول : أن المراد من قوله تعالى : ( أم يريدون كيدا ) أي من الشيطان وإزاغته فيحصل مرادهم كأنه تعالى قال أنت لا تسألهم أجرا وهم يعلمون الغيب فهم محتاجون إليك وأعرضوا فقد اختاروا كيد الشيطان ورضوا بإزاغته ، والإرادة بمعنى الاختيار والمحبة ، كما قال تعالى : ( من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ) [ الشورى : 20] وكما قال : ( أئفكا آلهة دون الله تريدون ) [ الصافات : 86] وأظهر من ذلك قوله تعالى : ( إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك ) [ المائدة : 29] .
الوجه الثاني : أن يقال إن المراد والله أعلم أم ، وترتيب الكلام هو أنهم لما لم يبق حجة في الإعراض فهم يريدون نزول العذاب بهم والله أرسل إليهم رسولا لا يسألهم أجرا ويهديهم إلى ما لا علم لهم ولا كتاب عندهم وهم يعرضون ، فهم يريدون إذا أن يهلكهم ويكيدهم ، لأن الاستدراج كيد والإملاء لازدياد الإثم ، كذلك لا يقال هو فاسد لأن الكيد والإساءة لا يطلق على فعل الله تعالى إلا بطريق المقابلة ، وكذلك المكر ، فلا يقال أساء الله إلى الكفار ولا اعتدى الله إلا إذا ذكر أولا فيهم شيء من ذلك ، ثم قال بعد ذلك بسببه لفظا في حق الله تعالى كما في قوله تعالى : ( يريدون كيدا لله فهو واصل إليهم وهم عن قريب مكيدون وجزاء سيئة سيئة مثلها ) [ الشورى : 40] وقال : ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه ) [ البقرة : 194] وقال : ( ومكروا ومكر الله ) [ آل عمران : 54] وقال : ( يكيدون كيدا وأكيد كيدا ) [ الطارق : 15 ، 16] لأنا نقول الكيد ما يسوء من نزل به وإن حسن ممن وجد منه ، ألا ترى أن إبراهيم عليه السلام قال : ( لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين ) [ الأنبياء : 57] من غير مقابلة .
[ ص: 230 ] المسألة الثانية : ما الفائدة في قوله تعالى : ( فالذين كفروا هم المكيدون ) وما الفرق بين معنى هذا الكلام ومعنى قول القائل : أم يريدون كيدا فهم المكيدون ؟ نقول : الفائدة كون الكافر مكيدا في مقابلة كفره لا في مقابلة إرادته الكيد ، ولو قال : أم يريدون كيدا فهم المكيدون ، كان يفهم منه أنهم إن لم يريدوه لا يكونوا مكيدين ، وهذا يؤيد ما ذكرناه أن المراد من الكيد كيد الشيطان أو كيد الله ، بمعنى عذابه إياهم لأن قوله ( فالذين كفروا هم المكيدون ) عام في كل كافر كاده الشيطان ويكيده الله أي يعذبه ، وصار المعنى على ما ذكرناه أتهديهم لوجه الله أم تسألهم أجرا فتثقلهم فيمتنعون عن الاتباع ، أم عندهم الغيب فلا يحتاجون إليك فيعرضون عنك ، أم ليس شيء من هذين الأمرين الأخيرين فيريدون العذاب ، والعذاب غير مدفوع عنهم بوجه من الوجوه لكفرهم ، . فالذين كفروا معذبون
المسألة الثالثة : ما الفائدة في تنكير الكيد حيث لم يقل أم يريدون كيدك أو الكيد أو غير ذلك ليزول الإبهام ؟ نقول فيه فائدة ، وهي الإشارة إلى وقوع العذاب من حيث لا يشعرون ، فكأنه قال : يأتيهم بغتة ولا يكون لهم به علم أو يكون إيرادا لعظمته كما ذكرنا مرارا .