( أم للإنسان ما تمنى فلله الآخرة والأولى )
ثم قال تعالى : ( أم للإنسان ما تمنى ) المشهور أن أم منقطعة معناه : أللإنسان ما اختاره واشتهاه ؟ وفي ( ما تمنى ) وجوه :
الأول : الشفاعة تمنوها وليس لهم شفاعة .
الثاني : قولهم ( ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى ) [ فصلت : 50] .
الثالث : قول الوليد بن المغيرة ( لأوتين مالا وولدا ) [ مريم : 77] .
الرابع : ، فإن قلت هل يمكن أن تكون أم هاهنا متصلة ؟ نقول نعم والجملة الأولى حينئذ تحتمل وجهين : تمنى جماعة أن يكونوا أنبياء ولم تحصل لهم تلك الدرجة الرفيعة
أحدهما : أنها مذكورة في قوله تعالى : ( ألكم الذكر وله الأنثى ) كأنه قال ألكم الذكر وله الأنثى على الحقيقة أو تجعلون لأنفسكم ما تشتهون وتتمنون ، وعلى هذا فقوله تلك ( إذا قسمة ضيزى ) وغيرها جمل اعترضت بين كلامين متصلين .
ثانيهما : أنها محذوفة وتقرير ذلك هو أنا بينا أن قوله ( أفرأيتم ) لبيان فساد قولهم ، والإشارة إلى ظهور ذلك من غير دليل ، كما إذا قال قائل فلان يصلح للملك فيقول آخر لثالث ، أما رأيت هذا الذي يقوله فلان ولا يذكر أنه لا يصلح للملك ، ويكون مراده ذلك فيذكره وحده منها على عدم صلاحه ، فههنا قال تعالى : ( أفرأيتم اللات والعزى ) أي يستحقان العبادة أم للإنسان أن يعبد ما يشتهيه طبعه وإن لم يكن يستحق العبادة ، وعلى هذا فقوله أم للإنسان أي هل له أن يعبد بالتمني والاشتهاء ، ويؤيد هذا قوله تعالى : ( وما تهوى الأنفس ) أي عبدتم بهوى أنفسكم ما لا يستحق العبادة فهل لكم ذلك ؟
[ ص: 261 ] ثم قال تعالى : ( فلله الآخرة والأولى ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في تعلق الفاء بالكلام وفيه وجوه :
الأول : أن تقديره الإنسان إذا اختار معبودا في دنياه على ما تمناه واشتهاه فلله الآخرة والأولى يعاقبه على فعله في الدنيا وإن لم يعاقبه في الدنيا فيعاقبه في الآخرة ، وقوله تعالى : ( وكم من ملك ) [ النجم : 26] إلى قوله تعالى : ( لا تغني شفاعتهم ) [ النجم : 26] يكون مؤكدا لهذا المعنى أي عقابهم يقع ولا يشفع فيهم أحد ولا يغنيهم شفاعة شافع .
الثاني : أنه تعالى لما بين أن اتخاذ اللات والعزى باتباع الظن وهوى الأنفس كأنه قرره وقال إن لم تعلموا هذا فلله الآخرة والأولى ، وهذه الأصنام ليس لها من الأمر شيء فكيف يجوز الإشراك وقوله تعالى : ( وكم من ملك ) على هذا الوجه جواب كلام ، كأنهم قالوا لا نشرك بالله شيئا ، وإنما هذه الأصنام شفعاؤنا فإنها صورة ملائكة مقربين ، فقال : ( وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا ) [ النجم : 26] .
الثالث : هذه تسلية كأنه تعالى قال ذلك لنبيه حيث بين رسالته ووحدانية الله ولم يؤمنوا فقال لا تأس ( فلله الآخرة والأولى ) أي لا يعجزون الله .
الرابع : هو ترتيب حق على دليله ، بيانه هو أنه تعالى لما بين رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ( إن هو إلا وحي يوحى ) إلى آخره وبين بعض ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وهو التوحيد ، قال إذا علمتم صدق محمد ببيان رسالة الله تعالى : ( فلله الآخرة والأولى ) لأنه صلى الله عليه وسلم أخبركم عن الحشر فهو صادق .
الخامس : هو أن الكفار كانوا يقولون للمؤمنين أهؤلاء أهدى منا ؟ وقالوا ( لو كان خيرا ما سبقونا إليه ) [ الأحقاف : 11] فقال تعالى : إن الله اختار لكم الدنيا وأعطاكم الأموال ولم يعط المؤمنين بعض ذلك الأمر بل قلتم : لو شاء الله لأغناهم وتحققتم هذه القضية ( فلله الآخرة والأولى ) قولوا في الآخرة ما قلتم في الدنيا ( الله يهدي من يشاء ) [ القصص : 56] كما يغني الله ما يشاء .
المسألة الثانية : ( الآخرة ) صفة ماذا ؟ نقول صفة الحياة أو صفة الدار وهي اسم فاعل من فعل غير مستعمل ، تقول أخرته فتأخر وكان من حقه أن تقول فأخر كما تقول غبرته فغبر فمنعت منه سماعا ، ولهذا البحث فائدة ستأتي إن شاء الله .
المسألة الثالثة : ( الأولى ) فعلى للتأنيث ، فالأول إذن أفعل صفة . وفيه مباحث :
البحث الأول : لا بد من فاعل أخذ منه الأفعل والفعلى فإن كل فعلى وأفعل للتأنيث والتذكير له أصل فليؤخذ منه كالفضلى والأفضل من الفاضلة والفاضل ، فما ذلك ؟ نقول هاهنا أخذ من أصل غير مستعمل كما قلنا إن الآخر فاعل من فعل غير مستعمل ، وسبب ذلك هو أن كل فعل مستعمل فله آخر، وذلك لأن له ماضيا فإذا استعملت ماضيه لزم فراغ الفعل وإلا لكان الفاعل بعد في الفعل فلا يكون ماضيا فإنك لا تقول لمن هو بعد الأكل أكل إلا متجوزا عندما يبقى له قليل ، فيقول أكل إشارة إلى أن ما بقي غير معتد به وتقول لمن قرب من الفراغ فرغت فيقول فرغت بمعنى أن ما بقي قليل لا يعتد به فكأني فرغت ، وأما الماضي في الحقيقة لا يصح إلا عند تمام الشيء والفراغ عنه فإذا للفعل المستعمل آخر فلو كان لقولنا آخر على وزن فاعل فعل هو أخر يأخر كأمر يأمر لكان معناه صدر مصدره كجلس معناه صدر الجلوس منه بالتمام والكمال فكان ينبغي أن القائل إذا قال فلان آخر كان معناه وجد منه تمام الآخرية وفرغ منها فلا يكون بعدما يكون آخر لكن تقدم أن كل فعل فله آخر بعده لا يقال يشكل بقولنا تأخر فإن معناه صار آخرا لأنا نقول وزن الفعل ينادي [ ص: 262 ] على صحة ما ذكرنا فإنه من باب التكلف والتكبر إذا استعمل في غير المتكبر أي يرى أنه آخر وليس في الحقيقة كذلك ، إذا علمت هذا فنقول الآخر فاعل ليس له فعل ، ومبالغته بأفعل وهو كقولنا أأخر ، فنقلت الهمزة إلى مكان الألف ، والألف إلى مكان الهمزة ، فصارت الألف همزة والهمزة ألفا ، ويدل عليه التأويل في المعنى ، فإن آخر الشيء جزء منه متصل به والآخر مباين عنه منفصل والمنفصل بعد المتصل ، والآخر أشد تأخرا عن الشيء من آخره ، والأول أفعل ليس له فاعل ، وليس له فعل ، والأول أبعد عن الفعل من الآخر ، وذلك لأن الفعل الماضي علم له آخر من وصفه بالماضي ولولا ذلك الوصف لما علم له آخر ، وأما الفعل لتفسير كونه فعلا علم له أول ; لأن الفعل لا بد له من فاعل يقوم به ، أو يوجد منه فإذا الفاعل أولا ثم الفعل ، فإذا كان الفاعل أول الفعل كيف يكون الأول له فعل يوجد منه فلا فعل له ولا فاعل ، فلا يقال آل الشيء بمعنى سبق ، كما يقال قال من القول ، أو نال من النيل ، لا يقال إن قولنا سبق أخذ منه السابق ومن السابق الأسبق مع أن الفاعل يسبق الفعل ، وكذلك يقال تقدم الشيء مع أن الفاعل متقدم على الفعل إلى غير ذلك ، نقول أما تقدم قد مضى الجواب عنه في تأخر ، وأما سبق يقول القائل سابقته فسبقته فنجيب عنه بأن ذلك مفتقر إلى أمر يصدر من فاعل فالسابق إن استعمل في الأول فهو بطريق المشابهة لا بطريق الحقيقة ، والفاعل أول الفعل بمعنى قبل الفعل ، وليس سابق الفعل لأن الفاعل والفعل لا يتسابقان فالفاعل لا يسبقه ، والذي يوضح ما ذكرنا أن الآخر أبعد من الأول عن الفعل بخلاف الآخر ، وما يقال إن أول بمعنى جعل الآخر أولا لاستخراج معنى من الكلام فبعيد وإلا لم يكن آخر دونه في إفادة ذلك ، بل التأويل من آل شيء إذا رجع أي رجعه إلى المعنى المراد، وأبعد من اللفظين قبل وبعد فإن الآخر فاعل من غير فعل والأول أفعل من غير فاعل ولا فعل ، وقبل وبعد لا فاعل ولا أفعل فلا يفهم من فعل أصلا ؛ لأن الأول أول لما فيه من معنى قبل وليس قبل قبلا لما فيه من معنى الأول ، والآخر آخر لما فيه من معنى بعد ، وليس بعد بعدا لما فيه من معنى الآخر يدلك عليه أنك تعلل أحدهما بالآخر ولا تعكسه ، فتقول هذا آخر من جاء لأنه جاء بعد الكل ، ولا تقول هو جاء بعد الكل لأنه آخر من جاء ، ويؤيده أن الآخر لا يتحقق إلا ببعدية مخصوصة وهي التي لا بعدية بعدها ، وبعد ليس لا يتحقق إلا بالآخر فإن المتوسط بعد الأول ليس بآخر . وهذا البحث من أبحاث الزمان ومنه يعلم معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " ] لا تسبوا الدهر [ فإن الدهر هو الله " أي الدهر هو الذي يفهم منه القبلية والبعدية، والله تعالى هو الذي يفهم منه ذلك ، والبعدية والقبلية حقيقة لإثبات الله ولا مفهوم للزمان إلا ما به القبلية والبعدية فلا تسبوا الدهر فإن ما تفهمونه منه لا يتحقق إلا في الله وبالله ولولاه لما كان قبل ولا بعد .
البحث الثاني : ورد في كلام العرب الأولة تأنيث الأول وهو ينافيه صحة استعمال الأولى لأن الأولى تدل على أن الأول أفعل للتفضيل ، وأفعل للتفضيل لا يلحقه تاء التأنيث فلا يقال زيد أعلم وزينب أعلمة لسبب يطول ذكره ، وسنذكره في موضع آخر إن شاء الله تعالى ، نقول الجواب عنه : هو أن أول لما كان أفعل وليس له فاعل شابه الأربع والأرنب فجاز إلحاق التاء به ، ولما كان صفة شابه الأكبر والأصغر فقيل أولى .
المسألة الرابعة : أولى تدل على أن أول لا ينصرف ، فكيف يقال أفعله أولا ويقال جاء زيد أولا وعمرو ثانيا ؟ فإن قيل جاز فيه الأمران بناء على أولة وأولى فمن قال بأن تأنيث أول أولة فهو كالأربع والأربعة فجاز التنوين ، ومن قال أولى لا يجوز ، نقول إذا كان كذلك كان الأشهر ترك التنوين لأن الأشهر أن تأنيثه أولى [ ص: 263 ] وعليه استعمال القرآن ، فإذن الجواب أن عند التأنيث الأولى أن يقال أولى نظرا إلى المعنى ، وعند العرب أولة لأنه هو الأصل ودل عليه دليل ، وإن كان أضعف من الغير وربما يقال بأن منع الصرف من أفعل لا يكون إلا إذا لم يكن تأنيثه إلا فعلى ، وأما إذا كان تأنيثه بالتاء أو جاز ذلك فيه لا يكون غير منصرف .