( كلا سوف تعلمون  ثم كلا سوف تعلمون  كلا لو تعلمون علم اليقين  لترون الجحيم  ثم لترونها عين اليقين    ) 
أما قوله تعالى : ( كلا سوف تعلمون  ثم كلا سوف تعلمون     ) فهو يتصل بما قبله وبما بعده ، أما الأول   [ ص: 75 ] فعلى وجه الرد والتكذيب أي : ليس الأمر كما يتوهمه هؤلاء من أن السعادة الحقيقية بكثرة العدد والأولاد ، وأما اتصاله بما بعده ، فعلى معنى القسم أي حقا سوف تعلمون لكن حين يصير الفاسق تائبا ، والكافر مسلما ، والحريص زاهدا ، ومنه قول الحسن    : لا يغرنك كثرة من ترى حولك فإنك تموت وحدك ، وتحاسب وحدك ، وتقريره : ( يوم يفر المرء    ) [ عبس : 34 ] ، ( ويأتينا فردا    ) [ مريم : 80 ] ، ( ولقد جئتمونا فرادى    ) [ الأنعام : 94 ] إلى أن قال : ( وتركتم ما خولناكم    ) [ الأنعام : 94] وهذا يمنعك عن التكاثر ، وذكروا في التكرير وجوها : 
أحدها : أنه للتأكيد ، وأنه وعيد بعد وعيد كما تقول للمنصوح : أقول لك ، ثم أقول لك : لا تفعل . 
وثانيها : أن الأول عند الموت حيث يقال له : لا بشرى ، والثاني في سؤال القبر : من ربك ؟ والثالث عند النشور حين ينادي المنادي ، فلان شقي شقاوة لا سعادة بعدها أبدا وحين يقال : ( وامتازوا اليوم    ) [ يس : 59 ] 
وثالثها : عن الضحاك  سوف تعلمون أيها الكفار : ( ثم كلا سوف تعلمون    ) أيها المؤمنون ، وكان يقرؤها كذلك ، فالأول وعيد والثاني وعد . 
ورابعها : أن كل أحد يعلم قبح الظلم والكذب وحسن العدل والصدق ، لكن لا يعرف قدر آثارها ونتائجها ، ثم إنه تعالى يقول : سوف تعلم العلم المفصل لكن التفصيل يحتمل الزائد ، فمهما حصلت زيادة لذة ، ازداد علما ، وكذا في جانب العقوبة ، فقسم ذلك على الأحوال ، فعند المعاينة يزداد ، ثم عند البعث ، ثم عند الحساب ، ثم عند دخول الجنة والنار ، فلذلك وقع التكرير . 
وخامسها : أن إحدى الحالتين عذاب القبر والأخرى عذاب القيامة ، كما روي عن أبي ذر  أنه قال : كنت أشك في عذاب القبر ، حتى سمعت  علي بن أبي طالب    - عليه السلام - يقول : إن هذه الآية تدل على عذاب القبر  ، وإنما قال : ( ثم    ) لأن بين العالمين والحياتين موتا . 
( كلا لو تعلمون علم اليقين  لترون الجحيم  ثم لترونها عين اليقين    ) وفيه مسائل : 
المسألة الأولى : اتفقوا على أن جواب " لو " محذوف ، وأنه ليس قوله : ( لترون الجحيم    ) جواب " لو" ويدل عليه وجهان : 
أحدهما : أن ما كان جواب " لو " فنفيه إثبات ، وإثباته نفي ، فلو كان قوله : ( لترون الجحيم    ) جوابا لـ " لو " لوجب أن لا تحصل هذه الرؤية ، وذلك باطل ، فإن هذه الرؤية واقعة قطعا ، فإن قيل : المراد من هذه الرؤية رؤيتها بالقلب في الدنيا ، ثم إن هذه الرؤية غير واقعة قلنا : ترك الظاهر خلاف الأصل . 
والثاني : أن قوله : ( ثم لتسألن يومئذ عن النعيم    ) إخبار عن أمر سيقع قطعا ، فعطفه على ما لا يوجد ولا يقع قبيح في النظم ، واعلم أن ترك الجواب في مثل هذا المكان أحسن ، يقول الرجل للرجل : لو فعلت هذا أي لكان كذا ، قال الله تعالى : ( لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم    ) [الأنبياء : 39 ] ولم يجئ له جواب وقال : ( ولو ترى إذ وقفوا على ربهم    ) [ الأنعام : 30] إذا عرفت هذا فنقول : ذكروا في جواب " لو " وجوها : 
أحدها : قال الأخفش    : " لو تعلمون علم اليقين " ما ألهاكم التكاثر . 
وثانيها : قال أبو مسلم    : لو علمتم ماذا يجب عليكم لتمسكتم به أو لو علمتم لأي أمر خلقتم لاشتغلتم به . 
وثالثها : أنه حذف الجواب ليذهب الوهم كل مذهب فيكون التهويل أعظم ، وكأنه قال : " لو علمتم علم اليقين لفعلتم ما لا يوصف ولا يكتنه ، ولكنكم ضلال وجهلة " ، وأما قوله : ( لترون الجحيم    ) فاللام يدل على أنه جواب قسم محذوف ، والقسم لتوكيد الوعيد ، وأن ما أوعدا به مما لا مدخل فيه للريب وكرره معطوفا بـ " ثم " تغليظا للتهديد وزيادة في التهويل . 
 [ ص: 76 ] 
المسألة الثانية : أنه تعالى أعاد لفظ " كلا " وهو للزجر ، وإنما حسنت الإعادة : لأنه عقبه في كل موضع بغير ما عقب به الموضع الآخر ، كأنه تعالى قال : لا تفعلوا هذا فإنكم تستحقون به من العذاب كذا لا تفعلوا هذا فإنكم تستوجبون به ضررا آخر ، وهذا التكرير ليس بالمكروه بل هو مرضي عندهم ، وكان الحسن  رحمه الله يجعل معنى ( كلا    ) في هذا الموضع بمعنى "حقا " كأنه قيل حقا : ( لو تعلمون علم اليقين    ) . 
المسألة الثالثة : في قوله : ( علم اليقين    ) وجهان : 
أحدهما : أن معناه علما يقينا فأضيف الموصوف إلى الصفة ، كقوله تعالى : ( ولدار الآخرة    ) [ يوسف : 109] وكما يقال : مسجد الجامع وعام الأول . 
والثاني : أن اليقين ههنا هو الموت والبعث والقيامة ، وقد سمي الموت يقينا في قوله : ( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين    ) [الحجر : 99 ] ولأنهما إذا وقعا جاء اليقين وزال الشك ، فالمعنى لو تعلمون علم الموت وما يلقى الإنسان معه وبعده في القبر وفي الآخرة لم يلهكم التكاثر والتفاخر عن ذكر الله ، وقد يقول الإنسان : أنا أعلم علم كذا أي : أتحققه ، وفلان يعلم علم الطب وعلم الحساب ، لأن العلوم أنواع ، فيصلح لذلك أن يقال : علمت علم كذا . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					