( فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا    )   [ ص: 146 ] قوله تعالى : ( فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا    ) فيه مسائل : 
المسألة الأولى : أنه تعالى أمره بالتسبيح ثم بالحمد ثم بالاستغفار  ، ولهذا الترتيب فوائد : 
الفائدة الأولى : اعلم أن تأخير النصر سنين مع أن محمدا  كان على الحق مما يثقل على القلب ويقع في القلب أني إذا كنت على الحق فلم لا تنصرني ؟ ولم سلطت هؤلاء الكفرة علي ؟ فلأجل الاعتذار عن هذا الخاطر أمر بالتسبيح ، أما على قولنا : فالمراد من هذا التنزيه أنك منزه عن أن يستحق أحد عليك شيئا بل كل ما تفعله فإنما تفعله بحكم المشيئة الإلهية ، فلك أن تفعل ما تشاء كما تشاء ففائدة التسبيح تنزيه الله عن أن يستحق عليه أحد شيئا ، وأما على قول المعتزلة    : ما فائدة التنزيه هو أن يعلم العبد أن ذلك التأخير كان بسبب الحكمة والمصلحة لا بسبب البخل وترجيح الباطل على الحق ، ثم إذا فرغ العبد عن تنزيه الله عما لا ينبغي فحينئذ يشتغل بحمده على ما أعطى من الإحسان والبر ، ثم حينئذ يشتغل بالاستغفار لذنوب نفسه . 
الوجه الثاني : أن للسائرين طريقين فمنهم من قال : ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله بعده ، ومنهم من قال : ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله ، ولا شك أن هذا الطريق أكمل ، أما بحسب المعالم الحكمية ، فلأن النزول من المؤثر إلى الأثر أجل مرتبة من الصعود من الأثر إلى المؤثر ، وأما بحسب أفكار أرباب الرياضات فلأن ينبوع النور هو واجب الوجود وينبوع الظلمة ممكن الوجود ، فالاستغراق في الأول يكون أشرف لا محالة ، ولأن الاستدلال بالأصل على التبع يكون أقوى من الاستدلال بالتبع على الأصل ، وإذا ثبت هذا فنقول : الآية دالة على هذه الطريقة التي هي أشرف الطريقين وذلك لأنه قدم الاشتغال بالخالق على الاشتغال بالنفس فذكر أولا من الخالق أمرين : 
أحدهما : التسبيح . 
والثاني : التحميد ، ثم ذكروا في المرتبة الثالثة الاستغفار وهو حالة ممزوجة من الالتفات إلى الخالق وإلى الخلق . 
واعلم أن صفات الحق محصورة في السلب والإيجاب والنفي والإثبات  ، والسلوب مقدمة على الإيجابات فالتسبيح إشارة إلى التعرض للصفات السلبية التي لواجب الوجود وهي صفات الجلال ، والتحميد إشارة إلى الصفات الثبوتية له ، وهي صفات الإكرام ، ولذلك فإن القرآن يدل على تقدم الجلال على الإكرام ، ولما أشار إلى هذين النوعين من الاستغفار بمعرفة واجب الوجود نزل منه إلى الاستغفار ؛ لأن الاستغفار فيه رؤية قصور النفس ، وفيه رؤية جود الحق  ، وفيه طلب لما هو الأصلح والأكمل للنفس ، ومن المعلوم أن بقدر اشتغال العبد بمطالعة غير الله يبقى محروما عن مطالعة حضرة جلال الله ، فلهذه الدقيقة أخر ذكر الاستغفار عن التسبيح والتحميد . 
الوجه الثالث : أنه إرشاد للبشر إلى التشبه بالملكية ، وذلك لأن أعلى كل نوع أسفل متصل بأسفل النوع الأعلى ولهذا قيل : آخر مراتب الإنسانية أول مراتب الملكية ثم الملائكة ذكروا في أنفسهم ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك    ) [ البقرة : 30 ] فقوله ههنا : ( فسبح بحمد ربك    ) إشارة إلى التشبه بالملائكة في قولهم : ( ونحن نسبح بحمدك    ) [ البقرة : 30 ] وقوله ههنا : ( واستغفره ) إشارة إلى قوله تعالى : ( ونقدس لك    ) لأنهم فسروا قوله : ( ونقدس لك    ) أي نجعل أنفسنا مقدسة لأجل رضاك ، والاستغفار يرجع معناه أيضا إلى تقديس النفس ، ويحتمل أن يكون المراد أنهم ادعوا لأنفسهم أنهم سبحوا بحمدي ورأوا ذلك من أنفسهم ، وأما أنت فسبح بحمدي ، واستغفر من أن ترى تلك الطاعة من نفسك بل يجب أن تراها من توفيقي وإحساني ، ويحتمل أن يقال : الملائكة كما قالوا في حق أنفسهم :   [ ص: 147 ]   ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك    ) قال الله في حقهم : ( ويستغفرون للذين آمنوا    ) [ غافر : 7 ] فأنت يا محمد  استغفر للذين جاءوا أفواجا كالملائكة يستغفرون للذين آمنوا ويقولون : ربنا ( فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك    ) [ غافر : 7 ] . 
الوجه الرابع : التسبيح هو التطهير ، فيحتمل أن يكون المراد طهر الكعبة  من الأصنام وكسرها ثم قال : ( بحمد ربك    ) أي ينبغي أن يكون إقدامك على ذلك التطهير بواسطة الاستغفار بحمد ربك ، وإعانته وتقويته ، ثم إذا فعلت ذلك فلا ينبغي أن ترى نفسك آتيا بالطاعة اللائقة به ، بل يجب أن ترى نفسك في هذه الحالة مقصرة ، فاطلب الاستغفار عن تقصيرك في طاعته . 
والوجه الخامس : كأنه تعالى يقول : يا محمد  إما أن تكون معصوما أو لم تكن معصوما فإن كنت معصوما فاشتغل بالتسبيح والتحميد ، وإن لم تكن معصوما فاشتغل بالاستغفار ، فتكون الآية كالتنبيه على أنه لا فراغ عن التكليف في العبودية كما قال : ( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين    ) [ الحجر : 99 ] . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					