المسألة الثالثة : أنه تعالى قال في مفتاح القراءة : ( فاستعذ بالله ) وقال ههنا : ( أعوذ برب الفلق ) وفي موضع آخر : ( وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين ) [ المؤمنون : 69 ] وجاء في الأحاديث : ( أعوذ بكلمات الله التامات ) ولا شك أن هو الله ، وأما الرب فإنه قد يطلق على غيره ، قال تعالى : ( أفضل أسماء الله أأرباب متفرقون ) [ يوسف : 39 ] فما السبب في أنه تعالى عند الأمر بالتعوذ لم يقل : أعوذ بالله بل قال : ( برب الفلق ) ؟ وأجابوا عنه من وجوه :
أحدها : أنه في قوله : ( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله ) [ النحل : 98 ] إنما أمره بالاستعاذة هناك لأجل قراءة القرآن ، وإنما أمره بالاستعاذة ههنا في هذه السورة لأجل حفظ النفس والبدن عن السحر ، والمهم الأول أعظم ، فلا جرم ذلك هناك الاسم الأعظم .
وثانيها : أن الشيطان يبالغ حال منعك من العبادة أشد مبالغة في إيصال الضر إلى بدنك وروحك ، فلا جرم ذكر الاسم [ ص: 175 ] الأعظم هناك دون ههنا .
وثالثها : أن اسم الرب يشير إلى التربية فكأنه جعل تربية الله له فيما تقدم وسيلة إلى تربيته له في الزمان الآتي ، أو كان العبد يقول : التربية والإحسان حرفتك فلا تهملني ، ولا تخيب رجائي .
ورابعها : أن بالتربية صار شارعا في الإحسان ، والشروع ملزم .
وخامسها : أن هذه السورة فذكر لفظ الرب تنبيها على أنه سبحانه لا تنقطع عنك تربيته وإحسانه ، فإن قيل : إنه ختم القرآن على اسم الإله حيث قال : ( آخر سور القرآن ملك الناس إله الناس ) [ الناس : 3 ] قلنا : فيه لطيفة وهي كونه تعالى قال : قل أعوذ بمن هو ربي ولكنه إله قاهر لوسوسة الخناس فهو كالأب المشفق الذي يقول ارجع عند مهماتك إلى أبيك المشفق عليك الذي هو كالسيف القاطع والنار المحرقة لأعدائك فيكون هذا من أعظم أنواع الوعد بالإحسان والتربية .
وسادسها : كأن الحق قال لمحمد عليه السلام : قلبك لي فلا تدخل فيه حب غيري ، ولسانك لي فلا تذكر به أحدا غيري ، وبدنك لي فلا تشغله بخدمة غيري ، وإن أردت شيئا فلا تطلبه إلا مني ، فإن أردت العلم فقل : ( رب زدني علما ) [ طه : 114 ] وإن أردت الدنيا فاسألوا الله من فضله ، وإن خفت ضررا فقل : ( أعوذ برب الفلق ) فإني أنا الذي وصفت نفسي بأني خالق الإصباح ، وبأني فالق الحب والنوى ، وما فعلت هذه الأشياء إلا لأجلك ، فإذا كنت أفعل كل هذه الأمور لأجلك ، أفلا أصونك عن الآفات والمخافات .