[ ص: 36 ] فصل وفي قال الله تعالى : { الإخلاص ، والصدق ، وإحضار النية في جميع الأعمال البارزة ، والخفية وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } ، وقال تعالى : { فاعبد الله مخلصا } ، وقال تعالى { ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله } ،
وروينا عن أمير المؤمنين رضي الله عنه قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { عمر بن الخطاب } ) حديث صحيح متفق على صحته مجمع على عظم موقعه ، وجلالته ، وهو إحدى قواعد الإيمان ، وأول دعائمه ، وآكد الأركان . قال إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ، ورسوله ، فهجرته إلى الله ، ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه رحمه الله : يدخل هذا الحديث في سبعين بابا من الفقه ، وقال أيضا : هو ثلث العلم ، وكذا قاله أيضا غيره ، وهو أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام ، وقد اختلف في عدها فقيل : ثلاثة ، وقيل : أربعة ، وقيل : اثنان ، وقيل : حديث ، وقد جمعتها كلها في جزء الأربعين فبلغت أربعين حديثا ، لا يستغني متدين عن معرفتها ; لأنها كلها صحيحة جامعة قواعد الإسلام ، في الأصول ، والفروع ، والزهد ، والآداب ، ومكارم الأخلاق ، وغير ذلك ، وإنما بدأت بهذا الحديث تأسيا بأئمتنا ، ومتقدمي أسلافنا من العلماء رضي الله عنهم ، وقد ابتدأ به إمام أهل الحديث بلا مدافعة الشافعي في صحيحه ، ونقل جماعة أن السلف كانوا يستحبون افتتاح الكتب بهذا الحديث تنبيها للطالب على تصحيح النية ، وإرادته وجه الله تعالى بجميع أعماله البارزة ، والخفية . أبو عبد الله البخاري
وروينا عن الإمام أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله قال : لو صنفت كتابا بدأت في أول كل باب منه بهذا الحديث ، وروينا عنه أيضا [ ص: 37 ] قال : من أراد أن يصنف كتابا فليبدأ بهذا الحديث ، وقال الإمام أبو سليمان محمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي الشافعي الإمام في ( كتابه المعالم ) رحمه الله تعالى كان المتقدمون من شيوخنا يستحبون تقديم حديث : { } أمام كل شيء ينشأ ، ويبتدأ من أمور الدين . لعموم الحاجة إليه في جميع أنواعها ، وهذه أحرف من كلام العارفين في الإخلاص ، والصدق . الأعمال بالنيات
قال أبو العباس عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : " إنما يعطى الرجل على قدر نيته " ، وقال رحمه الله : نظر الأكياس في تفسير الإخلاص فلم يجدوا غير هذا : أن تكون حركاته ، وسكونه في سره ، وعلانيته لله تعالى وحده ، لا يمازجه شيء ، لا نفس ، ولا هوى ، ولا دنيا ، وقال أبو محمد سهل بن عبد الله التستري السري رحمه الله : لا تعمل للناس شيئا ، ولا تترك لهم شيئا ، ولا تعط لهم شيئا ، ولا تكشف لهم شيئا ، وروينا عن التابعي رحمه الله أنه قيل له : حدثنا فقال : حتى تجيء النية ، وعن حبيب بن أبي ثابت أبي عبد الله سفيان بن سعيد الثوري رحمه الله قال : ما عالجت شيئا أشد علي من نيتي إنها تتقلب علي ، وروينا عن الأستاذ أبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري رحمه الله في رسالته المشهورة قال : الإخلاص إفراد الحق في الطاعة بالقصد ، وهو أن يريد بطاعته التقرب إلى الله تعالى ، دون شيء آخر من تصنع لمخلوق ، أو اكتساب محمدة عند الناس ، أو محبة مدح من الخلق ، أو شيء سوى التقرب إلى الله تعالى . قال : ويصح أن يقال الإخلاص تصفية العقل عن ملاحظة الخلق ، والصدق التنقي عن مطالعة النفس . فالمخلص لا رياء له ، والصادق لا إعجاب له .
وعن أبي يعقوب السوسي رحمه الله قال : متى شهدوا في إخلاصهم الإخلاص ، احتاج إخلاصهم إلى إخلاص ، وعن رحمه الله قال : ثلاثة من علامات الإخلاص : استواء المدح ، والذم من العامة ، ونسيان رؤية الأعمال في الأعمال ، واقتضاء ثواب العمل في الآخرة ، وعن ذي النون أبي عثمان رحمه الله قال : الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق ، وعن حذيفة المرعشي رحمه الله قال : الإخلاص أن تستوي أفعال العبد في الظاهر ، والباطن .
[ ص: 38 ] وعن أبي علي الفضيل بن عياض رحمه الله قال : ترك العمل لأجل الناس رياء ، والعمل لأجل الناس شرك ، والإخلاص أن يعافيك الله منهما . وعن رويم رحمه الله قال : الإخلاص أن لا يريد على عمله عوضا من الدارين ، ولا حظا من الملكين ، وعن يوسف بن الحسين رحمه الله قال : أعز شيء في الدنيا الإخلاص ، وعن أبي عثمان قال : إخلاص العوام ما لا يكون للنفس فيه حظ ، وإخلاص الخواص ما يجري عليهم لا بهم ، فتبدو منهم الطاعات ، وهم عنها بمعزل ، ولا يقع لهم عليها رؤية ، ولا بها اعتداد .
وأما الصدق فقال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } قال القشيري : الصدق عماد الأمر ، وبه تمامه ، وفيه نظامه ، وأقله استواء السر ، والعلانية ، وروينا عن سهل بن عبد الله التستري قال : لا يشم رائحة الصدق عبد داهن نفسه أو غيره ، وعن رحمه الله قال : الصدق سيف الله ما وضع على شيء إلا قطعه ، وعن ذي النون الحارث بن أسد المحاسبي بضم الميم رحمه الله قال : الصادق هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الخلق من أجل صلاح قلبه ، ولا يحب اطلاع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله ، ولا يكره اطلاعهم على السيئ من عمله ; لأن كراهته ذلك دليل على أنه يحب الزيادة عندهم ، وليس هذا من أخلاق الصديقين ، وعن أبي القاسم الجنيد بن محمد رحمه الله قال : الصادق يتقلب في اليوم أربعين مرة ، والمرائي يثبت على حالة واحدة أربعين سنة .
قلت : معناه أن الصادق يدور مع الحق حيث دار فإذا كان الفضل الشرعي في الصلاة مثلا صلى ، وإذا كان في مجالسة العلماء ، والصالحين ، والضيفان ، والعيال ، وقضاء حاجة مسلم ، وجبر قلب مكسور ، ونحو ذلك فعل ذلك الأفضل ، وترك عادته ، وكذلك الصوم ، والقراءة ، والذكر ، والأكل ، والشرب ، والجد ، والمزح ، والاختلاط ، والاعتزال ، والتنعم ، والابتذال ، ونحوها ، فحيث رأى الفضيلة الشرعية في شيء من هذا فعله ، ولا يرتبط بعادة ، ولا بعبادة مخصوصة ، كما يفعله المرائي ، وقد كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحوال في صلاته ، وصيامه ، وأوراده ، وأكله ، وشربه ، ولبسه ، وركوبه ، ومعاشرة أهله ، وجده ، ومزاحه ، وسروره ، وغضبه ، وإغلاظه في إنكار المنكر ، ورفقه فيه ، وعقوبته مستحقي التعزير ، وصفحه عنهم ، وغير ذلك بحسب الإمكان ، والأفضل في ذلك الوقت ، والحال .
[ ص: 39 ] ولا شك في اختلاف أحوال الشيء في الأفضلية ، فإن الصوم حرام يوم العيد ، واجب قبله ، مسنون بعده ، والصلاة محبوبة في معظم الأوقات ، وتكره في أوقات ، وأحوال ، كمدافعة الأخبثين ، وقراءة القرآن محبوبة ، وتكره في الركوع ، والسجود ، وغير ذلك ، وكذلك تحسين اللباس يوم الجمعة ، والعيد ، وخلافه يوم الاستسقاء ، وكذلك ما أشبه هذه الأمثلة . وهذه نبذة يسيرة ترشد الموفق إلى السداد ، وتحمله على الاستقامة ، وسلوك طريق الرشاد .