الشعر المرسل..
وقد ظل العرب أقل من عشرين قرنا يصوغون شعرهم حسب البحور المأثورة عنهم حتى جاء هـذا العصر الأنكد بما يسمى: الشعر المرسل ، محاكاة للشعر الأوربي كما يقولون..
وأكرهتني الأيام على سماع هـذا اللغو من بعض الإذاعات، أو قراءته في بعض المجلات فماذا وجدت؟ تقطعا عقليا في الفكرة المعروضة، كأنها أضغاث أحلام، أو خيالات سكران.. ثم يصب هـذا الهذيان في ألفاظ يختلط هـزلها وجدها، وقريبها وغريبها، وتراكيب يقيدها السجع حينا. [ ص: 103 ] وتهرب من قيوده أحيانا.. ثم يوصف المشرف على هـذا المخطوط الكيماوي المشوش.. بأنه شاعر..
في الشعر الأجنبي - المرسل - صورة ذهنية أو عاطفية ظاهرة على النحو الذي سقنا شواهده أول هـذا البحث، أما التقليد العربي له فشيء غريب حقا واسمع هـذا الكلام الذي نشرته صحيفة الراية في ملحقها الأسبوعي (567)
وصاعدا فصاعدا..
نأيت عن خريطة الليمون والحوانيت الخفيفة..
حجر من النهر اصطفاني.. فارتعدت!
الثور والحمير تجري فوق أكوام الغلال!!
وحاجتي لمعطف التبرك..
ابتداء من فجر صحن بيتنا - السحارة العتيقة..
آن الأوان..
لأروح في السيجا قوي الجأش..
لأروح تحت البواكي أملأ السيجا مرابيع النجوم..
قوس الجنازة الذي..
يمتد في قوس البيوت الواطئة..
الصاغة الملثمون والحلب... النسوة الحبالى..
قلبي الذي يجول... الخ الخ..
من من الناس في الدنيا أو في الآخرة يفهم هـذا المجون؟ كأن جامع الحروف التقط كلمات من على الأرض، ورصها كيفما اتفق! وزيادة في التهويل أو التزوير جاء الرسام فوضع حولها بعض الزخارف الغامضة وتحت عنوان ((وشم العاشق)) سمى هـذا الخليط الكيماوي شعرا!!! كان صديقي [ ص: 104 ] محمد مصطفى حمام رحمه الله مولعا بتقليد هـذا الشعر المرسل، والضحك من قائليه، فجاءني يوما يقول: اسمع هـذه القصيدة.
تحت شجرة الأبدية..
جلس الدهر يتفلى..
وجلست معه أرمق الأفق البعيد..
على شاطئ مديد من الصخور اللينة..
هناك في الجزر التي تبارز الأمواج..
كانت حبيبتي تحيا مع الغزلان وبقر الوحش..
أين أنت يا حبيبتي..؟؟
فقلت له مصححا: أين أنت يا مصيبتي؟ هـكذا قال الشاعر، أو كذلك يجب أن يقول! ومع ذلك فهذا الهزل المصنوع أكثر تماسكا من الشعر المرسل الذي انتشر في صحفنا انتشار القمامات في الطرق المهملة..
ذلكم صنيع الاستعمار الثقافي بنا، وبلغتنا، وتراثنا الأدبي، وخصائصنا الفنية!
وقد راقبت إنتاج ذوي الأسماء اللامعة في هـذا الميدان المبتدع، فوجدت السمة الغالبة على هـذا اللغو المسمى شعرا لا تتخلف أبدا.. التفكير المشوش أو اللاتفكير، والتعبير الذي يجمع الألفاظ بالإكراه من هـنا ومن هـنا ويحاول وضعها في أماكنها، وتحاول هـي الفرار من هـذه الأماكن..
والسؤال الذي يتردد باستمرار لماذا أيها القوم تسمون أنفسكم شعراء، إذا كنتم لا تحسنون قرض الشعر وبناء القصيد؟ لماذا لا تحاولون أن تكونوا ناثرين بعد استكمال القدرة العقلية واللغوية؟
ومن العجائب أن هـذا العجز الأدبي يلبس ثياب البطولة، فعندما مات صلاح عبد الصبور ، غفر الله له، نشر الرسامون الهزليون صورة لتمثال أقيم له [ ص: 105 ] وقد نقشت في قاعدته هـذه العبارة ((فارس الكلمة))!
أي فروسية؟ إنها طريقة المصريين - أو العرب أحيانا - في تسمية الأعمى أبا بصير، وتسمية الأقرع: شعراوي!! كذلك يسمى العاجز عن نظم الكلم: فارس الكلمة..!!