المهمة الثانية
وهي: إعادة صياغة مناهج العلوم الاجتماعية، من تاريخ واجتماع واقتصاد وسياسة وتربية وعلم نفس، وكذلك الأدب ونظرياته النقدية وفق مبادئ الإسلام.. فلا شك أن الحضارة الأوروبية قطعت شوطا واسعا في هـذا السبيل، ولا يمكن البدء بمرحلة تأسيس من الصفر، فليس كل نتاج الحضارة الغربية في هـذا السبيل خطأ وباطلا، خاصة ما يرتكز على الكشوف الطبيعية والتجارب المختبرية، بل إن الفلسفة التي تطبعه والروح المهيمنة عليه بعيدة عن الإيمان بالله عز وجل ورسالاته، ولذلك فقد عبرت عن المهمة " بإعادة صياغة " بدل " تأسيس " .
ولا شك أن وضع الخطط والبرامج التفصيلية لإقرار ما يمكن إقراره، [ ص: 115 ] وإبعاد ما يلزم إبعاده يحتاج إلى اللجان المتخصصة في كل علم؛ وأن الأقسام المتخصصة في الجامعات الإسلامية ينبغي أن تنهض لحمل هـذه الأعباء، فقسم التربية يسعى إلى تطوير نظرية تربوية إسلامية تنبثق عن فهم الكتاب والسنة، واستلهام تراث الفكر التربوي الإسلامي مع الإفادة من المعطيات السليمة للنظريات التربوية المعاصرة بعد صبغتها بصبغة الإسلام، فالنظريات التربوية الغربية انبثقت عن فلسفات مادية، وتصورات علمانية، ومعظم فلاسفتها من الماديين والعلمانيين.
ونظرة إلى واقع المجتمعات الغربية تكفل الحكم على معطيات التربية الغربية: التحلل الخلقي والإحساس " بالضياع " ، والرغبة في " العدم " ، وتصاعد " الجريمة " ، وتحدي " القانون " ، و " العنف " ، و " شريعة الغاب " في التعامل مع الآخرين.
وبعد: فهل نحتاج إلى تقويم للنظريات التربوية بعد أن ظهرت ثمارها المسمومة في عالم اليوم؟!!!.
لقد اعتبر " فرويد " الإنسان عبدا للجنس الذي يتحكم في فكره ومشاعره وسلوكه، ويكون محور نشاطه الخاص والعام.
واعتبر " ماركس " الاقتصاد هـو محور هـذا النشاط، وكلاهما يتأثر بنظرية " داروين " عن أصل الإنسان والتي تهبط به إلى " الحيوانية " ، ولذلك فتغير مشاعره وفكره وسلوكه كلها ترتبط بهذه النظرية، فهو إما أن يدور بنشاطه حول محور " الجنس " أو " الاقتصاد " . [ ص: 116 ]
أما نظرة الإسلام ففيها تكريم الإنسان بوصفه مخلوقا عاقلا مكلفا:
( ولقد كرمنا بني آدم ) (الإسراء:70 ) ، وقد خلق ابتداء بهذه الصورة، ولم يتطور عن " قرد " وبالتالي فله خصائصه المميزة في عالم الحيوان، من روح وعقل مما رتب عليه تبعات في هـذه الدنيا، أعظمها: الإيمان بالله وتوحيده، وعبادته. إن أي سبر للآيات القرآنية والأحاديث النبوية مع الإفادة من الدراسات العلمية الحديثة سيمكن من تخليص هـذه الحقائق العلمية في النفس والاجتماع والتربية، من روحها الغربية العلمانية، وجذورها الوثنية اليونانية، ويمكن من بناء نظرية تربوية إسلامية مستقلة، محكومة بالكتاب والسنة خاصة وأن لدينا تاريخا علميا حافلا، وتدريسا جامعيا مبكرا، وتقاليد تدريسية عريقة ظهرت في الجامعات الإسلامية في عصور الإسلام الذهبية، وضمتها المؤلفات التي كتبها أسلافنا، مثل: سحنون في: (آداب المعلمين ) والقابسي في: (الرسالة المفصلة لأحوال المعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين ) والخطيب البغدادي في: (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ) وابن جماعة في: (تذكرة السامع والمتكلم ) ، وغيرها كثير مما يمكننا من تصور المفاهيم التربوية الإسلامية لنعمل على تطويرها مستفيدين من تجارب الفكر التربوي المعاصر بعد عرضها على المقاييس الإسلامية.
وكذلك فإن أقسام علم الاجتماع والاقتصاد والتاريخ مسئولة عن صوغ [ ص: 117 ] النظريات الإسلامية في هـذه المجالات، فالمصطلحات العصرية وإن كانت جديدة لكن الكثير من مضامينها موجود في الإسلام، وإبراز ذلك يحتاج إلى استقراء التراث للوصول إلى المبادئ والنظريات، فإذا كانت نظرية استقلال السلطات تنسب إلى " مونتسكيو " فإن الإسلام أقر استقلال السلطة القضائية قبل " مونتسكيو " بأكثر من عشرة قرون، وكان تعيين القضاة وقبول استقالتهم يتم من قبل الخليفة نفسه، ولا يخضع لولاة الأمصار، بل إن الخليفة نفسه لم يكن قادرا بعد تعيينهم على التدخل في شئون القضاء وأحكام القضاة، وهذا الأمر يصدق على كثير من النظريات والمبادئ العصرية.
وقد ظهرت دراسات عديدة حول إعادة صياغة التاريخ الإسلامي والعالمي من منظور إسلامي، والإفادة من مناهج النقد التي ألفها المحدثون تحت عنوان " مصطلح الحديث " فلا داعي لتناول هـذا الموضوع الذي اتضحت أبعاده أكثر من بقية العلوم الأخرى مما يهيئ للدخول في التفاصيل ووضع المناهج من قبل المتخصصين.
وأما ما يتعلق بتقديم الأدب العربي المعاصر ونظرياته النقدية في إطار إسلامي يجمع بين الأصالة والمعاصرة، فنحن أمة لها تراث خصب يقدر أن يشدها إلى ماضيها، ويكسبها شخصية متميزة في حاضرها، ولكننا لم نعط التراث حقه من الدراسة، ولم نسع بالقدر الكافي إلى نقده وتمحيصه وتقويمه، ولم نبن على جذوره القوية حركتنا الأدبية والفكرية المعاصرة، وربما بسبب ما أصاب حضارتنا العربية والإسلامية من ركود [ ص: 118 ] امتد قرونا طويلة لم تعد فيه تمتلك زمام المبادرة، فتخلت عن مركز الريادة والقيادة، وفتحت أجيالنا المعاصرة عيونها على حركة فكرية تقتبس من التيارات الأدبية والفكرية الغربية بنهم شديد، وتقدم الغذاء الجديد بسمه ودسمه لملايين الجياع إلى الفكرة الجديدة، والرأي المبتكر، والعرض الجديد.. وكانت الحضارة الغربية قد وصلت إلى ذروة الإنتاج العلمي والأدبي، وتمخضت عن آلاف القصص والمسرحيات، ومعطيات الفكر الأخرى مستفيدة من النمو والنضج المادي للمدنية الغربية التي اعتمدت على إحياء علوم الإغريق وفلسفاتهم في أواخر العصور الوسطى الأوروبية، أي: في الفترة التي عرفت بعصر النهضة، والذي يبدأ من القرن الخامس عشر الميلادي، ويرى " هـومر " أن عصر الإحياء سبق عصر النهضة، وبدأ من القرن الثاني عشر، وبعد الإحياء للعلوم ودراستها ونقدها حصلت الإضافات الضخمة واستفاد الأوروبيون من منهج البحث التجريبي عند المسلمين فجمعوا بين الرؤية الفلسفية والمنهج العلمي الإسلامي... فولدت الحضارة الجديدة بمنهج بحث علمي إسلامي، وروح فلسفية عادية مكتسيه بغلالة شفافة من النصرانية ، سرعان ما نزعتها فصبغت العلوم والآداب، وخاصة في القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين، بصبغة مادية معادية للدين.
لقد أوضح الفيلسوف الإنجليزي " برتراند رسل " هـذا الامتزاج بين الرؤى الفلسفية اليونانية والمنهج العلمي الإسلامي، وما ولده هـذا [ ص: 119 ] الامتزاج من انبعاث المدنية الأوروبية الحاضرة [1] ولا شك أن التقدم العلمي والتكنولوجي الضخم الذي صاحبه تقدم أقل في مجالات العلوم الإنسانية التربوية والنفسية أثر على معطيات الفكر المختلفة، كالمذاهب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأدبية، والاتجاهات النقدية، ومقاييس التقويم، والقيم الجمالية والفنية والخلقية تأثيرا عميقا، واستمر الركود يخيم على دار الإسلام حتى أواخر القرن التاسع عشر حين ظهرت صيحات الإصلاح الأولى.. ولكن الركود الفكري والاجتماعي الطويل، والتمزق السياسي، والصراعات المختلفة أعاقت " دار الإسلام " عن اللحاق بالآخرين، وتمزقت الشخصية الإسلامية التي صارت تعاني من عقدة النقص أمام التقدم الغربي الضخم..
وظهرت حركة نقل واقتباس في الثقافة والآداب دون تمييز ولا انتقاء وأقبل الجياع على مائدة دسمة حافلة لكنها مسمومة، ولم يفطن معظمهم للسموم أمام حلاوة الذوق.. أما الذين فطنوا فلم يتمكنوا من سد الفراغ [ ص: 120 ] وتقديم طعام جديد إلا محاولات يسيرة لا تغني من جوع، واستمرت العقود تتوالى، وظهر الغثيان، وعرف الكثيرون بأن الطعام مسموم ولا بد من البديل، والبديل هـو الثقافة الإسلامية والفكر الإسلامي والآداب الإسلامية... ولكن الجذر الذي لم يرو منذ قرون إلا بالقليل اليسير يحتاج إلى أن يغذى ليقوى على حمل الشجرة الطيبة، فكيف السبيل إلى ذلك؟
كيف يمكن إيجاد زاد فكري يملأ الفراغ، ويشبع الجياع، ويكون بديلا عن الشجرة الخبيثة؟ إن العودة إلى الجذر ضرورة ولكن تركه ينمو نموا هـادئا دون طفرات يحتاج إلى قرون، فهل يمكن أن نفيد من معطيات التقدم الإنساني، ونفيد من تجارب الآخرين في رفده وتقويته ليحمل الشجرة الطيبة، ويلقي بالثمار النضيجة في وقت قريب؟ وهل يؤثر ذلك على أصالتنا وتميزنا؟
وإذا أردنا النفاذ إلى النماذج لئلا يختلف تفسير الرؤى العامة المطلقة، فإنه في نطاق الأدب ظهرت تحليلات عميقة للنفس الإنسانية بسبب نمو علم النفس بمدارسه المختلفة، وخدم علم الاجتماع القصة والشعر بتعميق المضمون، ولا شك أن معطيات هـذه العلوم ليست سلبية دائما، وإن ارتبطت بفلسفة هـدامة، لكن كثيرا من الحقائق والتحليلات صحيحة ومحايدة، شأنها شأن العلوم الرياضية والطبيعية، ويمكن الإفادة منها في تعميق مضامين الأدبيات الإسلامية؛ نعم ما المانع من الأشكال الفنية [ ص: 121 ] والمضامين العميقة في تصور النفس والكون، وطرق الموضوعات الجديدة المتفقة مع بنائنا الفكري المتميز وثقافتنا الإسلامية الأصيلة؟ ما المانع من الاقتباس المنتقى إذا كان صالحا أيا كان مصدره؟ ما المانع من الانفتاح على النتاج الإنساني العالمي مع الحفاظ على الرؤية الإسلامية والمقاييس الإسلامية؟