(أ) لمحـة تاريخيـة
يستخرج الكوكائين من أوراق نبات الكوكا Erythroxylon Coca؛ وهي شجيرة تنمو في أمريكا الجنوبية ، ونقلت فيما بعد إلى سيلان ، وجامائيكا وخاصة في جاوا التي أصبحت فيما بعد المركز الأول للإنتاج. هذا وكان مونتغازا Montegazza قد أشار منذ عام 1850 إلى أن سكان البيرو يمضغون أوراق نبات الكوكا ليزيدوا من مقاومتهم للتعب والجوع والعطش. ويستهلك الفرد منهم وسطيا ما بين (50 - 500) غ يوميا. وفي عام 1856 أشار الأمريكي صاموئيل برسـي Samuel Percy إلى الخدر الحاصل في الفم من جراء مضغ الكوكا. وفي عام (1857) و (1859) استخرج كل من ريزي Rizzi ونيمان Niemann المادة الفعالة في هذه الأوراق وسميت بالكوكائين وأدخلت هذه المادة فيما بعد ما بين 1870 و 1880 في خزانة المداواة الطبية كمخدر موضعي ممتاز Reclus.
يباع الكوكائين بشكل كلوريدرات وهو ملح سريع الذوبان ويتمتع بسمية عالية، ذلك أن تناول (50،0) غ منه عن طريق الفم يؤدي إلى الموت المحتم [1] . [ ص: 69 ]
ولقد برهن العالم بوشه Pouchet أن الكوكائين سام لجميع أنسجة البدن الحي؛ ويمتاز بأنه يميل لاصطفاء خلايا الجملة العصبية والمراكز العصبية أكثر من الجملة العصبية المحيطية.
إن الانسمام الحاد بالكوكائين، سواء كان عرضيا أم بتجاوز المقادير الطبية المسموحة، يؤدي إلى الموت السريع، وأحيانا يكون صاعقا بالتأثير المباشر على البصلة السيسائية، فيؤدي إلى اضطرابات تنفسية وتبرد النهايات، وبالتالي الموت بالاختناق. [ ص: 70 ]
إن زراعة شجر الكوكا خاضعة للمراقبة واستعماله في غير الأغراض الدوائية ممنوع.. اعتبارا من الاتفاق الدولي المتعلق بالمخدرات في عام 1961م.
إلا أن العادة تغلبت على القانون في كثير من بلاد أمريكا الجنوبية. ففي كل من بوليفيا والبيرو وكولومبيا وشيلي ؛ لا يعتبر القانون الدولي سوى بمثابة الرجاء والرغبة تجاه التقاليد الشعبية العريقة.
فالمواطن العادي الذي يدمن على الكوكا والمسمى عادة بالكوكويرو Coquero يأخذ الأوراق وينزع منها العصب المركزي ثم يكورها في فمه، ويبدأ بمصها، وينقلها بحركة مستمرة بين لسانه وأسنانه ثم يعصرها تحت أسنانه دون أن يمضغها حقيقة. ويمكن التعرف على المدمنين القدامى من خلال النظر إلى التشوهات الحادثة في الخدين من جراء هذه العادة المزمنة. وكيما يحرر الكوكويرو المادة الفعالة من الأوراق يضيف إليها الرماد أو الكلس الحي.
ويقدر اليوم عدد المصابين بالانسمام الكوكائيني بما لا يقل عن (5-6) مليون والذين يمضغون عشرات الكيلوغرامات من أوراق الكوكا في العام. ومن الناحية الرسمية يقدر المنتوج السنوي لأوراق الكوكا بـ (13000) طن يخصص (400) طن منها لإنتاج الكوكائين قانونيا، ويستهلك الباقي للمضغ في البلاد المنتجة؛ هذا مع التغاضي عن الكميات المزروعة والتي لا تخضع للرقابة القانونية.
يعتبر الكوكا من المنبهات الشديدة: فهو يزيل الإحساس بالتعب والجوع والعطش والبرد. ويساعد الطبقات الشعبية البائسة في تلك [ ص: 71 ] البلاد على تحمل الشروط المعاشية المزرية التي يحيونها وأن يتحملوا مشاق الأعمال المضنية مقابل لقمة صغيرة من الغذاء.
ويجد بعضهم في أوراق الكوكا ما يجده الآخرون في جوزة الكولا ومن هنا جاءت إلى بعض المنتجين فكرة دمج المركبين في مزيج واحد لا يزال واسع الانتشار تحت اسم (الكوكا - كولا) .
إلا أنه تجدر الملاحظة إلى أن أوراق الكوكا المعدة لصناعة هذا النمط من الشرابات يجب أن تهيأ اعتبارا من الأوراق المجردة من الكوكائين طبقا للقوانين الدولية الناظمة؛ ولهذا لا تصنف أوراق الكوكا المعالجة بهذه الصورة مع المخدرات.
إن المضغ المستمر لأوراق الكوكا يشغل الكثير من الخبراء الدوليين لما ينشأ عن ذلك من عواقب بدنية واجتماعية وخيمة. وقد ذكر أحد المؤلفين أن الآباء الذين يمضغون الأوراق لا يبالون أبدا بل لا يهتمون بإرسال أولادهم إلى المدارس؛ وكثيرا ما يحثونهم على التجربة والتمسك بهذه العادة. وذكر بعض إحصاءات الأونيسكو أن الأولاد الذين يتعاطون مضغ الأوراق غير مهيئين عمليا لمتابعة الدراسة ولا يهتمون أبدا بالتعلم والتعليم. وتضيف هذه الإحصاءات بأن هؤلاء الأولاد يتصفون بالخجل الشديد؛ وينغلقون على أنفسهم ولا تبدو عليهم حتى أي رغبة للعب.
وتدل الإحصاءات أيضا أن درجة الأمية في هذه البلاد ترتبط ارتباطا وثيقا بكمية أوراق الكوكا المستهلكة.
ب - الإدمان الكوكائيني COCAINOmANIE:
يبتدئ الاستهلاك لأول مرة بمشاعر مستكرهة: كالشعور بالغثيان والضعف العام والتوتر العصبي والأرق الشديد. إلا أن معاودة الاستهلاك بصورة معتدلة تؤدي إلى تعاظم النشوة وبالتالي تستدعي الإدمان والإذعان إلى العقار.
ومن العجيب أن نلاحظ بأن هذا المركب الذي يعتبر خطيرا جدا إذا [ ص: 73 ] ما أخذ عن طريق الحقن؛ يبدو على العكس سهل التناول والتحمل إذا ما تم تناوله عن طريق مخاطية الأنف. وتلعب ظاهرة الاعتياد في هذه الحالة دورا كبيرا. فالمدمن المبتدئ لا يتجاوز عادة (1) غ يوميا يتناوله على (3) دفعات. والمدمن المتوسط يتناول ما بين (1-3) غ يوميا؛ أما المدمن المزمن فقد يصل به الأمر إلى تناول (3 أو 5) أو حتى (10) غ يوميا.
ويترافق الإدمان الكوكائيني بحوادث واضطرابات خطيرة لا يمكن التغاضي عنها وخاصة من الناحية العقلية. ويمكننا أن نلخص أطوار الإدمان بالمراحل التالية.
1 - مرحلة التظاهرات الأولية
تبدأ بالنشوة الفعالة جدا ويسميها بعضهم بالسعادة الحركية والتي تعاكس النشوة الهادئة للمورفين. ويشعر المدمن بأنه أصبح خفيفا ورشيقا ونشيطا ومقاوما. وتتتالى عليه الأفكار من كل حدب وصوب ويصبح في هذه اللحظات إنتاجه الأدبي والفني غزيرا جدا. ويقول بعضهم : بأن الكوكائين لا يجعل المرء يعمل بصورة أفضل؛ بل يحمله على العمل بشكل أسرع. فالمدمن الكوكائيني ثرثار وفصيح ويشعر أنه بحاجة ماسة للحركة والسرعة في الإنجاز حتى تصل به إلى مرحلة الجنون.
إلا أن هذه الديناميكية وهذا التعاظم في الشخصية والبدنية والعقلية لا يدوم إلا برهة من الزمن؛ يقع المرء بعدها في حالة من الوهن وعدم [ ص: 74 ]
المبالاة، ويحاول أن يتخلص منهما بتناول جرعة جديدة من العقار وتبدأ الحلقة المفرغة بالاستمرار إلى ما لا نهاية.
وعلاوة على ذلك، فقد يصل المرء إلى درجة من السكر الكوكائيني تترافق بالرؤى والمشاعر المهلوسة التي تبدأ بالتظاهر سريعا بعد عدة أسابيع أو عدة أشهر من تعاطي العقار.
2- طور الهلوسة واضطرابات السلوك
في هذه المرحلة تتجلى مظاهر عديدة من الأحكام الخاطئة والمحاكمات المضطربة. ويقع المرء تحت وطأة الأوهام ويبدو له أن كل شيء يتحرك من أمامه: اللوحات على الجدران وأثاث الغرفة وتضطرب الستائر من خلفه. وغالبا ما تتراءى هذه الأمور بصورة براقة. وأغرب مافي الأمر أن المرء يؤخذ مشدوها بسحر هذه المظاهر من حوله ويتمناها أن تستمر إلى الأبد. وتتراءى له هذه المظاهر على السطوح الملساء والمرايا؛ بحيث يقف المدمن طويلا يتأمل المرآة وكأنها شاشة سينما تنساب عليها الأحداث التي تجري في مخيلته.
ولا تتوقف مظاهر الهلوسة على النظر، بل تتعداها أيضا إلى السمع؛ حيث يخيل إليه أنه ينصت أحيانا إلى كلام موهوم أو إلى معزوفة موسيقية أو حديث خافت لبعض الأصدقاء.
وأهم ما يمتاز به الانسمام الكوكائيني شعوره بالهلوسات الجلدية والمخاطية كالإحساس غير الطبيعي بالبرد أو الكهرباء أو التطاير؛ ثم يتبعه شعور بأنه يلتهم رويدا رويدا من بعض الحشرات الطفيلية الصغيرة [ ص: 75 ]
كالبراغيث أو القمل أو الديدان أو الجراثيم؛ وأنها تتوضع في جسمه ما بين البشرة والأدمة وأنه يشعر بوجودها حقيقة.
وهذه المشاعر الخاصة تملي عليه انفعالات مناسبة فيبدأ بحك بدنه وفرك يديه ورجليه ووجهه؛ ويقرض جلده؛ وأحيانا يبدأ بحفر جلده بالدبابيس بحثا عن الديدان والحشرات التي تلتهمه. وتتضافر مخاطيات البدن مع هذه المشاعر العدوانية: فالشفتان والفم واللهاة Luette مملوءة بالرمال وطحين الزجاج وكباكيب الخيطان.. ويبحث عنها باستمرار ليخلص منها بالأصابع أو بالملاقط؛ ويدل عليها التقرحات المشاهدة على اللسان واللثة.
ولا يلبث المدمن أن يقع تحت وطأة الأوهام بأنه مستهدف ومراقب وملاحق ومهدد؛ وينغلق على نفسه في بيته ويسد جميع المنافذ
والثقوب؛ ويتكبكب مقعيا على نفسه بكل بلادة وقد يبقى أحيانا يعيش مع الإهمال والفوضى والوساخة العجيبة، وتدعوه الحاجة للعقار للخروج من مكمنه جاريا كالوحش الكاسر غير عابئ بمن حوله من الناس يبحث كالمجنون عن مصدر يلبي رغباته الجامحة.
وغالبا ما تكون حياة هؤلاء المدمنين غارقة في الإهمال والفوضى، وتبدأ حياتهم بالدمار والفقر المدقع، مما يحدو بهم إلى الاحتيال والسرقة والتلاعب على الناس، حتى قد تدفعهم إلى أعمال العنف وارتكاب الجرائم.
3 - طـور الانحطاط
قليل من السنوات (5 - 10 سنوات) تكفي عادة لتدفع المدمن الكوكائيني إلى الانحطاط والانهيار الذي يتجلى بالنحول وفقدان الشهية للطعام. وأهم ما يتميز به المصاب انثقاب الحجاب الأنفي من جراء استنشاق الكوكائين، وتلاحظ في هذا الطور مظاهر الانحطاط العقلي وتحطم الشخصية أكثر ما تتجلى في الإدمان على المخدرات الأخرى وخاصة منها الأفيون. ومع كل هذا فإن الانسمام الكوكائيني يفترق عن الانسمام بالهيروئين بأنه لا يسبب إذعانا جسميا للمصاب. وإن الحرمان لا يستتبع مظاهر النوبات المشاهدة مع الهيروئين؛ وكل ما في الأمر أن الحاجة هنا هي حاجة نفسية أكثر منها حاجة جسمية.
ولهذا ينصح بعض العلماء المعالجين بأنه يجب ألا نتردد في حرمان المدمن بشكل حاسم وفعال، وأن نبعده عن البيئة التي عاش فيها طويلا [ ص: 77 ] وأن نستبقيه لمدة طويلة في المستشفيات، أو مصحات المعالجة فليس لهذا النوع من المدمنين من عدو، أشد من ارتباطهم بحياتهم السابقة؛ ومحاولة العودة إليها بشتى الطرق.
(جـ) انتشار الكوكائين في العالم
يعتبر الكوكائين في السنوات الأخيرة أحد مخدرات (الموضة ) التي تنتشر بين الطبقات الراقية المترفة. وقد تعاطاه في الماضي كثير من مشاهير العالم، مثل سيغمون فرويد والباباليون الثالث عشر. وكثيرا ما نسمع عنه اليوم بمناسبة القبض على أحد الموسيقيين أو الفنانين المشهورين أو كبار الموسرين.
يستخدم الكوكائين في المداواة كمخدر موضعي وينتشر استعماله كثيرا في طب الأسنان؛ وخاصة في الجراحة السنية والجراحة الصغرى.
يباع الكوكائين في أسواق التهريب بشكل كتل بيضاء أو بشكل مسحوق أبيض وقد يكون متبلورا أحيانا. ونظرا لارتفاع ثمنه الباهظ فغالبا ما يخلط مع غيره من المركبات. ولهذا فإن أحسن حالات الكوكائين التجاري لا تحوي أكثر من (60%) من المركب النقي؛ وفي الحالات العادية تتراوح نقاوته ما بين (5-35%) . وقد ضبطت بعض الحالات من المركب التجاري التي لا تحوي أي أثر للكوكائين النقي.
يجري تعاطي الكوكائين بامتصاصه من خلال مخاطيات الفم أو الأنف؛ وقد يستخدم حقنا في الوريد، وهي حالة خطيرة جدا؛ كما هي الحال في حقن بقية المخدرات. وقد يلجأ بعض المدمنين إلى تحويل الكوكائين الملحي إلى كوكائين أساسي الذي يتناول عادة بشكل أبخرة [ ص: 78 ] مستنشقة بعد تسخين المركب؛ ويعتبر أثر هذا الفعل شديدا جدا وشرسا للغاية.
يباع الكوكائين بالجملة بأسعار متفاوتة من بلد لآخر. فقد بلغ سعر الكيلو غرام منذ عام 1985 كما يلي:
البـلد سعر الكيلـوغرام الواحد بانكـوك مزيج بنسبة 30% 10000 دولار كولومبيـا مزيج بنسبة 30% 3000 دولار إسبانيـا مزيج بنسبة 30% 8000 دولار فرنسـا مزيج بنسبة 30% 90000 دولار بريطانيـا مزيج بنسبة 30% 12000 دولار
[ ص: 79 ] أما أسعار المبيع بالمفرق فهي باهظة جدا وليس لها أي قاعدة تجارية سوى قاعدة العرض والطلب كما يبدو من الجدول التالي:
البلـد سعر الغرام الواحد بالدولار ألمانيا الغربية 84 - 122 دولارا إسبانيـا 84 دولارا فرنسـا 122 - 154 دولارا بريطانيـا 106 - 188 دولارا إيطاليـا 50 دولارا هـولنـده 77 - 128 دولارا الولايات المتحدة 180 - 225 دولارا
ويبدو من خلال الإحصائيات الحديثة أن استهلاك الكوكائين يسير بصورة مضطردة ومتزايدة باستمرار. وتقدر الهيئة الدولية لمراقبة المخدرات أن استهلاك الكوكائين في عام 1985 قد زاد عن (30) طنا. [ ص: 80 ]