1- خصائص الوحي.
للوحي قرآنا وحديثا خصائص أصلية، تعتبر معرفتها قاعدة ضرورية في فهم ما فيهما من التعاليم. ونورد فيما يلي أهم هـذه الخصائص: ( أ ) الوحي قرآنا وحديثا إلهي المصدر كله. وشخص النبي صلى الله عليه وسلم المبلغ، دوره تبليغ معاني الوحي، كما نزلت عليه دون تدخل فيها بوجه من الوجوه. أما القرآن فهو إلهي المصدر معنى ولفظا، وأما الحديث فإلهي المصدر في معناه دون لفظه، [1] قال تعالى: ( وما ينطق عن الهوى إن هـو إلا وحي يوحى ) [النجم:3 ]. هذه خاصية الوحي في ذاته. أما بالنسبة للنظر فيه من حيث وثوقه بالمصدرية الإلهية للقرآن والحديث، فإن تلك المصدرية قطعية الثبوت في القرآن كله، وفي الحديث المتواتر، وظنية في [ ص: 46 ] حديث الآحاد [2] .
ويترتب على هـذا الأمر، حجية ما هـو قطعي الثبوت، حجية مطلقة، فيما يشتمل عليه من التعاليم كلها. أما الظني الثبوت فحجيته مقصورة على التعاليم المتعلقة بالسلوك دون المتعلقة بالاعتقاد [3] .
وسواء أكان الوحي قطعيا أم ظنيا في ثبوته، فإن تعاليمه في ذاته مطلقة القيومية على الإنسان، غير خاضعة بحال لتعقيبه، ودوره إزاءها إنما هـو دور الاستجلاء فحسب، قال تعالى: ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) [الأحزاب:36 ]. وأما التعقيب على أحاديث الآحاد في مجال العقيدة، فليس تعقيبا على الأحكام الواردة فيها، بل هـو تعقيب على الظنية في ثبوتها، دون أن يكون تعقيبا عليها في ذاتها.
( ب ) الوحي قرآنا وحديثا خطاب عام للناس كافة، دون قيد ظرفي بالزمان أو المكان، وذلك سواء كان في صيغته اللفظية عاما أو كان جزئيا، إلا ما جاء دليل على تخصيصه، كقوله تعالى [ ص: 47 ] في تخصيص النبي الكريم في بعض أحكام النكاح: ( خالصة لك من دون المؤمنين ) [الأحزاب:50 ]. ومرجع هـذا العموم في الخطاب إلى أصل عقائدي، هـو أن الإسلام دين عام للبشرية كما يفيده قوله تعالى: ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ) [سبأ:28 ]، وقوله: ( يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ) [الأعراف:158 ] [4] .
( جـ ) الوحي منحصر في نصوص جارية على لسان العرب بحسب أساليبهم في القول. وقد كانت للعرب قواعد في الكلام، من حيث دلالة الألفاظ على المعاني، ومن حيث ما يفيده النظم من معان غير معاني الألفاظ في ذلك، وأدبهم في ذلك أدب ثري، فهم من بين الأمم أهل البيان، الذين بلغوا فيه الدرجات العلى. وقد جاء الوحي على هـذا اللسان في قواعده مرتقيا إلى أعلى قمة فيه، حتى كان القرآن الكريم بالغاص درجة الإعجاز في ذلك. قال تعالى: ( نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ) [الشعراء: 193-194 ].
( د ) ما جاء به الوحي، ليس فيه ما يناقض العقل، بل هـو جار كله على مقتضى مبادئه: فقد جاء في هـذا الوحي، أن العقل هـو [ ص: 48 ] أساس التكليف، فلو كان فيه ما يناقض العقل لكان فيه تكليف بما لا يطابق، والحال أنه يعلن أن ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) [البقرة:286 ]. وأما ما يبدو في الظاهر أنه مناقض للعقل، مما جاء في القرآن والحديث، فهو إما أن يكون مما يعلو على فهم العقل دون أن يكون مناقضا له، أو يكون مما يبدو في ظاهره كذلك، ويسع التأويل أن يخرجه من ذلك الظاهر، أو يكون العقل مخطئا فيما توصل إليه من نتيجة، تبدو مناقضة لما جاء به الوحي، لعدم انتهاجه النهج الصحيح في البحث والنظر، أو يكون ما ظن وحيا من آحاد الحديث ليس في الحقيقة وحيا. وفي هـذه الأحوال كلها لا يكون ما جاء به الوحي مناقضا للعقل في حقيقة أمره [5] .
(ه ) الوحي وحدة متكاملة، وليس وحدات مستقلة، ومن مظاهر وحدته أنه يفسر بعضه بعضا، وينسخ بعضه بعضا، فالقرآن يفسر القرآن، والسنة تفسر القرآن. والقرآن قد ينسخ القرآن والحديث قد ينسخ الحديث. وكل ذلك معروفة مواطنه، مقررة عند العلماء؛ ولذلك فإن فهم الدين منه لا يتحقق على وجه صحيح إلا في ضوء وحدته ورد بعضه إلى بعض [6] . [ ص: 49 ]
( و ) الوحي ممحض للحكم في أجناس الأفعال الإنسانية المجردة، من حيث إن الأمر والنهي فيه يتعلقان في الخطاب بصفة مباشرة بجنس الفعل، كأن يتعلق النهي بالسرقة، والأمر بالأمانة. أما الأفعال الجزئية المشخصة بظروف المكان والزمان، مما قام به زيد من سرقة، أو عمرو من أمانة، فإن الوحي يتعلق بها بواسطة النظر العقلي، حيث يتم إرجاعها إلى أجناسها التي تعلق بها الوحي مباشرة، لما يقع التحقق من أنها مناطة بالجنس المعين، الذي شمله الحكم المعين، كأن يقع النظر العقلي في معاملة مالية قامت بها أطراف معينة، في زمن ما وبأوصاف معلومة، فيظهر بذلك النظر أن تلك المعاملة من جنس الربا ، فيتعلق بها إذا حكم المنع، وإنما تعلق بها ذلك الحكم بواسطة نظر العقل، لا بصفة مباشرة، كما تعلق بالربا الذي هـو جنس عام [7] .
وتعلق الوحي في أحكامه بأجناس الأفعال، قد يكون على وجه قطعي في الدلالة، بحيث لا يمكن أن يشتمل النص عند تقليبه على وجوهه، إلا على ذلك الحكم، ولا يمكن أن يفهم منه إلا هـو، وقد يكون ظني الدلالة، بحيث يكون النص محتملا لأكثر من حكم، ويكون ترجيح أحدها بنظر عقلي، في نطاق ما يسمح به قانون اللسان العربي. [ ص: 50 ]
( ز ) إن الوحي قرآنا وحديثا نزل منجما على زمن متطاول، وكان نزوله بحسب مناسبات، من أحداث ووقائع زمنية، في البيئة التي نزل فيها. وأحكام الوحي وإن كانت عامة كما ذكرناه آنفا إلا أن الاعتبارات الواقعية لنزولها عنصر مهم في فهمها؛ إذ هـي في منزلة القرائن والأحوال، التي يتعين بها المعنى، ويترجح بها الحكم فيما هـو ظني الدلالة. فيكون الوحي إذن، يحمل في ذاته فيما اشتمل عليه من المعاني والأحكام، شيئا من اعتبارات الواقع الذي نزل فيه متمثلا في مناسبات نزوله، مما يجعل الوقوف على ذلك الواقع في أحداثه وملابساته أمرا ضروريا في فهم الدين من الوحي [8] .
لقد أوردنا هـذه الخصائص مرتبة بحسب طبيعتها، فقدمنا ما كان منها ذو صبغة عقائدية، وأتبعنا ذلك بالخصائص المعتبر فيها الجانب الخطابي في الوحي، ثم أوردنا بعض الخصائص الدلالية، ومن جملة هـذه الخصائص الأساسية تتكون قاعدة ضرورية لفهم الدين، بحيث لا يكون هـذا الفهم متيسرا دون الوقوف عليها. وهي خصائص موضوعية، ادعاها الوحي ذاته لنفسه، وانبنى عليها واقعه بالفعل، فلا مجال لذلك؛ لأن يفهم خارجها حتى بالنسبة لمن لا يؤمنون بالوحي أصلا. أما إذا فهم خارجها فإن الناتج من الفهم لا يكون الدين الإسلامي كما عرض نفسه، وإنما يكون شيئا آخر [ ص: 51 ] مخلوطا فيه شيء مما جاء به الوحي، بشيء مما ينشئه العقل من نفسه، وقد وقع من ذلك نماذج عدة في القديم والحديث يدعى أنها الإسلام، وهي في الحقيقة ليست كذلك.