3- قيمة التراث في فهم الدين.
ليس في النظام الإسلامي طبقة كهنوت، يعهد إليها على وجه التخصيص بفهم الدين وتفسيره، كما في أغلب الأديان، بل فهم الدين من مصادره قدر مشترك بين المسلمين جميعا، لا يشترط فيه إلا تحصيل الوسائل الموضوعية اللازمة للفهم. وقد كان هـذا المبدأ مفضيا إلى نشوء ثروة عظيمة، من الشروح والتفاسير لحقيقة الدين، تنامت عبر الزمن، وأصبحت تراثا يتناقله المسلمون جيلا عن جيل، ويسهم في إثرائه العلماء والباحثون على اختلاف وجهاتهم ومذاهبهم دون تحديد. ومن المسائل التي ينبغي طرحها في قضية فهم الدين، دور هـذا التراث في الفهم، فهل أفهام [ ص: 65 ] السابقين وتفاسيرهم ضرورية في مساعي اللاحقين للفهم؟ وإذا كانت ضرورية، فهل هـي ضرورة استئناس أو هـي ضرورة إلزام؟ ذلك ما سنحاول طرقه فيما يلي، بعد التحقيق في مدلول التراث الذي سيكون موضوع البحث.
( أ ) مدلول التراث إن مصدر الدين كما ذكرناه سابقا هـو نصوص القرآن والحديث. وهذا المصدر بما هـو دلالات لغوية على المراد الإلهي الموجه لحياة الإنسان بصفة قطعية أو ظنية، فإن فهم الدين منه، يحتاج إلى عمل اجتهادي، لتعيين المراد الإلهي من خلال الدلالة، وباعتبار المقاصد العامة التي تتحقق بها مصلحة الإنسان. وقد انكب المسلمون على مصدر دينهم، لفهمه عبر الزمن، منذ عهد الصحابة، ومن اجتهاداتهم المتتالية نشأت أفهام دونوها في علومهم، وتفاسيرهم، وشروحهم، فقها وعقيدة وتفسيرا وأمثالها من العلوم، وهي أفهام لئن كانت تشترك في الأسس الكلية للدين، إلا أنها تفترق في كثير من الفروع والتفاصيل، ومن جملتها تتكون المدونة الكبرى التي أصبحت تسمى تراثا، باعتبار أنها يتوارثها المسلمون في علومهم الدينية، التي تتناقلها الأجيال وتتعهدها بالنظر والتنمية. [ ص: 66 ]
وبهذا المعنى يخرج من مدلول التراث مصدر الدين من نصوص القرآن والحديث، إذ هـما من الوحي الإلهي الملزم، في حين أن التراث هـو أفهام بشرية ظنية في أكثرها. وإنما دعانا إلى هـذا ا لإيضاح ما درج عليه بعض المتناولين لقضية التراث والموقف منه من إدراج للقرآن والحديث ضمن مدلول التراث، مع الإفهام البشرية، وإجراء الأحكام عليها في السياق نفسه، وذلك انطلاقا من إنكار صفة الوحي فيها، وانطلاقا من اعتبار تعاليمها خاضعة للتغير بتغير الزمان.
ومما نخرجه من مدلول التراث بالمعنى الذي سيكون محل درسنا في هـذا البحث تلك الإفهام التي وقع عليها إجماع من المسلمين، وخاصة تلك التي وقع عليها إجماع من الصحابة، فإن إجماعهم على فهم معين لمدلول قرآني أو حديثي [1]
يجعل ذلك الفهم بالغا من القطيعة مبلغا يخرج به من الدائرة التي تمكن فيها المراجعة البشرية اللاحقة، ويلتحق بالقرآن والحديث في تنزههما عن الاعتراض والتعقيب. ومبرر ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم قد شهدوا نزول الوحي، وحضروا ظروفه وأحواله، ورافقوا أسبابه ومناسباته، وتوفر لهم من التمكن، في لسان العرب وأساليبه، ما لم يتوفر لغيرهم، فإجماعهم على فهم معين، وهم على هـذه [ ص: 67 ] الحال، يرقى بذلك الفهم إلى درجة من اليقين، بأنه هـو المراد الإلهي، لا تحتمل المراجعة، ولذلك أجمع المسلمون على أن الإجماع هـو المصدر الثالث للتشريع. وبهذا المعنى نخرجه من دائرة التراث، في سياق حديثنا عن التراث وفهم الدين.
( ب ) ضرورة التراث في فهم الدين إذا كان القطعي في دلالته وثبوته من الدين، يمثل القدر الثابت الذي لا تختلف فيه الأفهام على مر الزمن، فإن الظني منه - وهو متسع المجال - ينفسح فيه النظر، ليرجع باجتهادات قابلة لأن تختلف فيها الأفهام، بمقتضى الظنية. وليست المذاهب الإسلامية المختلفة إلا مظهرا لاختلاف الأفهام، فيما هـو ظني من نصوص الدين. ويضاف إلى ذلك مجال أوسع للاختلاف، حينما يكون الاجتهاد متجها للبحث فيما لا نص فيه من المراد الإلهي، فحينئذ تكون وجهات النظر، أكثر عرضة للتباين، لتوسع مجال التقدير وإطلاق معطياته.
وبهذا الاعتبار فإن فهم الدين جهد متواصل، من قبل أجيال الأمة لا يتوقف، ولا يمكن أن يدعى في زمن من الأزمان أن تعاليم الدين قد استنفدت جهود الفهم، فليس للأحق أن يضيف اجتهادا جديدا فيه؛ وذلك لأن الاجتهاد في فهم الظني يقوم على معطيات وقرائن يرجع بعضها إلى ذات البنية النصية، ويرجع بعضها الآخر إلى ما هـو [ ص: 68 ] خارج عنها، من مكشوفات الحقائق في الكون والحياة، وهي معطيات متجددة متنامية، مما يجعل الاجتهاد في الفهم، وما ينشأ عنه من نتائج متجددة متنامية أيضا.
ومن المعطيات الأساسية في الفهم، الاجتهادات السابقة فيه، فإن تلك الاجتهادات، فيما اعتمدته من منهج، وفيما توصلت إليه من نتيجة، تعتبر من الناحية الموضوعية أساسا ضروريا لمعاودة النظر المستجد من أجل الفهم، كما يعتبر إلغاؤها بصفة مبدئية واستبعادها كأداة من أدوات الاجتهاد المتجدد إخلالا بشرط أساسي من شروط البحث عن الحقيقة، وهذا المعنى تؤيده وتؤكده في موضوع الحال مؤيدات ومبررات عديدة.
ومن هـذه المؤيدات أن الأجيال الإسلامية الأولى كانت أقرب إلى الظروف التي نزل فيها الدين، وأقرب إلى اللسان الذي نزل به، فتوفرت بذلك على حظوظ للفهم لم تتوفر عليها الأجيال التي جاءت بعدها، مما يعتبر عاملا يدعو على وجه الضرورة المنهجية إلى الوقوف على ما توصلوا إليه من أفهام.
ومنها أن أفهام السابقين قد تعرضت عبر الزمن للاختبار، إما بما يصيبها من النقد والتصويب والتعديل من قبل العلماء والباحثين، وإما بما تمر عليه من محك الواقع، عند أيلولتها إلى التطبيق، فيؤدي ذلك في كثير من الأحيان إلى إظهار مدى صوابها في موافقة [ ص: 69 ] المراد الإلهي، ومن ثمة يكون الرجوع إليها ضروريا في كل اجتهاد لاحق.
ومنها أن الجهود التي تبذلها الأمة على مر الزمن في تفهم دينها تمثل وحدة مترابطة الحلقات، فموضوع البحث واحد في ثبات وهو نصوص الدين والاجتهادات في فهمه ينبني بعضها على بعض إما بالتكميل وإما بالتعديل، وهكذا بنيت العلوم الإسلامية كلها من فقه وتفسير وتوحيد وغيرها، فهي ليست إلا أفهاما للدين، تنامت بمرور الأيام، ونضجت على محك النقد والتجربة، فأصبحت رصيدا للأمة في مسيرتها الدينية إلى آخر الزمن.
وبناء على هـذه الاعتبارات، فإن الدعوة إلى إسقاط التراث كله بصفة مبدئية، والتوجه مباشرة إلى مصدر الدين من نصوص القرآن والحديث لبناء فهم ابتدائي منهما لا علاقة له بالتراث هـي دعوة تلغي شطرا كبيرا من الشروط الموضوعية، التي يتوقف عليها فهم حقيقة الدين الفهم الصحيح، من حيث إنها تستبعد من العمل الاجتهادي في الفهم تجربة ثرية في ذلك، تنامت طيلة قرون، وخبرتها العقول والتطبيقات الواقعية جيلا بعد جيل.
وقد قامت في تاريخ الفكر الإسلامي حركات عدة تدعو إلى الاجتهاد ونبذ التقليد بالرجوع المباشر إلى مصدر الدين في استنباط [ ص: 70 ] الحلول لمستجدات الأحداث [2]
، ولكنها لم تكن حركات داعية إلى قطع الصلة بالتراث وإسقاطه من الاجتهاد في الفهم، كما تدعو إليه اليوم بعض الاتجاهات المعاصرة، بل هـي حركات تصحيحية، تهدف إلى إصلاح ما وقع أحيانا، من إغراق في العكوف على التراث والاقتصار عليه في فهم الدين، انقطاعا في ذلك عن النظر في الأصل الذي هـو نصوص القرآن والحديث. وتصويب مسيرة الاجتهاد في الفهم، التي يقتضي وضعها الصحيح أن يكون الأصل هـو المنطلق في الفهم، ويكون التراث هـو المساعد على ذلك، وهو مساعد ضروري من الناحية المنهجية الموضوعية.
( ج ) هـل التراث ملزم في فهم الدين؟ هل يعني ما قلناه سابقا، من أن الوقوف على التراث ضروري في فهم الدين، أن هـذا التراث بما وردت فيه من أفهام يمثل إلزاما للاحقين، بحيث لا تجوز مخالفته بأفهام مناقضة أو موازية أو معدلة؟ إننا لم نقصد بالضرورة التي حددناها آنفا إلا المقتضى المنهجي في البحث عن الحقيقة، وهو ما يقصر معنى الضرورة على الاسترشاد بالتراث، والاستنارة به عند الاجتهاد في فهم [ ص: 71 ] الدين، وهذا يعني أن إلزامية التراث على معنى وجوب التزام اللاحقين، بما توصل إليه السابقون من الأفهام، كليا أو جزئيا هـي قضية أخرى غير قضية الضرورة السابقة الذكر.
وقد أثيرت قضية إلزامية التراث هـذه فيما عرف في تاريخ الفكر الإسلامي، بقضية الاجتهاد والتقليد. فالنزعة التي ظهرت منادية بغلق باب الاجتهاد، والتزام التقليد، هـي نزعة ترى أن التراث ملزم في فهم الدين، والقائلون بالاجتهاد المتجدد لا يرون إلزامية التراث في ذلك، إذا اللاحقون غير مقيدين بأفهام السابقين وآرائهم.
ومن البين أن الحديث في هـذا الموضوع لا يشمل تلك الأفهام الثابتة، التي التزمها المسلمون على تعاقب أجيالهم، مما دلت عليه النصوص الدينية بطريق القطع، فإن توافق اللاحقين فيها مع السابقين ليس توافقا مبنيا على الالتزام بأفهامهم، وإنما هـو توافق أدت إليه الدلالة القطعية، التي لا يرتد النظر الاجتهادي منها إلا بوجه واحد من الفهم، على اختلاف المجتهدين وتباين العصور.
وفيما عدا هـذه الأفهام الثابتة، من سائر ما هـو ظني من التعاليم الدينية، فإنه يمكن القول: إن التراث فيها - أي أفهام السابقين - غير ملزم للاحقين في اجتهاداتهم لفهم الدين، بل لهؤلاء حق النقض والتعديل والترجيح، فيما ورد في التراث، من اجتهادات [ ص: 72 ] سواء الاجتهادات المتعلقة بالاستنباط الفقهي، أو المتعلقة بتأويل مفاهيم العقيدة، أو المتعلقة بشروح النصوص القرآنية والحديثية أصلا، بل لهم حق الابتكار لأفهام لم ترد على أذهان السابقين، والاستعاضة بها عما أثر عنهم من تفاسير واستنباطات وتأويل. وقد أفاض المنتصرون للاجتهاد الرافضون للتقليد في الاستدلال على هـذا الموقف المعارض لإلزامية التراث في الفهم الديني [3]
، ونؤكده في هـذا المقام بدليلين، يتعلق أحدهما بأصل التكليف، ويتعلق الثاني بالوضع الحالي للمسلمين، مقارنا بالصورة التي وصل عليها التراث إليهم، عبر أطوار صياغته المختلفة، وما حف بها من ظروف وملابسات.
أما ما يتعلق بأصل التكليف فإن الخطاب الديني هـو خطاب تكليفي مباشر لكل إنسان، وهذا ما يقتضي أن يتحمل كل إنسان مسئوليته الفردية، في تحمله للدين، الذي ينطلق ابتداء من فهمه، فيكون الفهم مسئولية فردية على هـذا المعنى، والوضع الأصلي هـو أن يكسب الإنسان معدات الفهم لهذا التكليف الفردي، فإذا لم يكن متمكنا من ذلك واحتاج إلى أن يتذرع بأفهام آخرين، فذلك وضع استثنائي، لا ينبغي أن يتحول إلى معنى من الالتزام [ ص: 73 ] بأفهام أولئك الآخرين، وهو في موضوع الحال الالتزام بالتراث. وعلى هـذا الأساس، فإن مقتضى الخطاب التكليفي يمنع من أن يكون التراث ملزما في فهم الدين، كمبدأ عام، ولا نظر هـنا إلى الحالات التي لا تتوفر فيها قدرات الفهم، فهي الحالات العارضة التي تعالج بقدرها ولا ينبني عليها أصل عام.
ويتبين من هـذا أن إلزامية التراث في فهم الدين ليس لها سند شرعي، بل إن الأصل الشرعي هـو الفهم المباشر، دون واسطة من أفهام أخرى، إلا عند الضرورة إلى ذلك، فيما يشبه الرخصة المستثناة من أصل العزيمة. ولا يخفى أن كلامنا هـذا منصب على أصل الفهم، فيما لكل إنسان أن يصدر به بعد التروي في أصول الدين، وأن يعلن عنه في حرية رأي، أما التطبيق السلوكي لذلك الفهم فهو أمر آخر، غير هـذا الأمر، تنضبط مسالكه بحسب طبيعة الأفهام، فيما إذا كانت فردية فتخضع لمشيئة الفرد، أو جماعية فتخضع للتنظيم الجماعي، فإذا كان للمجتهد أن يصدر بالفهم الذي يرتئيه في كل من أحكام الصوم، وشئون السياسة والحكم، وأن يعلن عنه في حرية، فإنه ليس له أن يتصرف في الثاني منهما، بمقتضى فهمه الخاص، مثلما يفعل في الأول لما له من علاقة بالأمة جمعاء.
وأما فيما يتعلق بالوضع الحالي للمسلمين، مقارنا بالصورة التي وصل عليها التراث. فإنه لا يخفى أن المسلمين في الأجيال الأولى [ ص: 74 ] عكفوا على أصول الدين بالنظر الاجتهادي، لفهم مدلولاتها في مختلف مناحي الحياة، وصدروا من ذلك النظر أفهام متفاعلة مع واقع الحياة، التي كانوا يعيشونها، فطوروا من ذلك الواقع بما نشأت منه الحضارة الإسلامية العظيمة في وجهيها المادي والمعنوي. وظلت الأفهام الدينية الناشئة من النظر الاجتهادي موصولة بالواقع، متفاعلة معه، مطورة له، على نحو ما نقف عليه في مؤلفات الأئمة من أهل القرون الأربعة أو الخمسة الأولى في الفقه خاصة، وفي التفسير والفكر العقدي، تلك التي إذا ما وضعناها في إطارها الزمني ألفيناها تنبض حياة، وتزخر بقوة الدفع إلى الأفضل، بما تحل من مشاكل الواقع، وتقترح من صور التطوير والتجاوز نحو الأفضل.
ولكن هـذا المسار الاجتهادي الواقعي الحي أصابه بعد حين من الزمن انتكاس، أخل بخاصية الواقعية والحيوية فيه، وذلك حينما آل النظر في الدين لفهمه، إلى الاقتصار على التوسط بالأفهام السابقة، وهو ما يطلق عليه اسم التقليد، وانكفأ بمرور الزمن التعامل المباشر مع أصول الدين، من القرآن والحديث، ليصبح التعامل منصبا على التراث اقتصارا عليه في فهم الدين من خلاله.
واقتضى هـذا الوضع الجديد، الذي استقر عليه المسلمون، في أحوال غالبة، بعد القرن الخامس، أن يعمد المهتمون بالفكر الإسلامي المفسر للدين، إلى أقوال السابقين وأفهامهم [ ص: 75 ] واجتهاداتهم، التي صاغوها ضمن سياقها الواقعي الحي، كما تبدو في مؤلفاتهم، فجردوها من ذلك السياق، وأخضعوها للعقل المجرد، ترتيبا وتبويبا وتفصيلا، تهيئة لها بذلك لغاية مدرسية، يسهل بها التصور والاستيعاب، يساعدهم في هـذا التجريد ما غلب على الفكر الإسلامي بعد القرن الخامس من منهجية المنطق الأرسطي الصوري، حتى غدا الناظر في كتب الفقه، وعلم الكلام خاصة، وما يتعلق بالشروح الدينية عامة، يلفي هـذا التراث قد صيغ في مجمله صياغة تعليمية مجردة، تقدم فيها أفهام الدين بصفة يتعامل فيها العقل مع الحقيقة الدينية المطلقة، دون مراعاة للواقع البشري، الذي سيكون مسرحا للتأثير الحي فيه، ودون توجيه لها نحو غايتها التي هـي غاية الدين أصلا، وهي توجيه الحياة في ظروفها وملابساتها المختلفة نحو الأصلح والأفضل. وتتبدى هـذه الصورة في وضوح وجلاء في تلك الشروح والمختصرات الفقهية وتلك التقريرات الكلامية، التي سادت في القرن الثامن وما بعده، والتي آل كثير منها إلى ما يشبه الرموز والإشارات، من فرط النزعة التجريدية فيه.
وقد أصبحت هـذه الصورة للتراث هـي السائدة في ساحة الفكر الإسلامي، طيلة القرون الماضية، وتنوسي أو كاد ذلك الوجه الأول، الذي كان عليه في حال واقعيته وحيويته، في مجاله الزمني وظروفه وملابساته الخاصة، مما كان يمكن أن يمثل عامل توجيه [ ص: 76 ] واقعي، بذكر الذهن الإسلامي بالواقعية في غمرة تجريده، كما أصيب بالإهمال شق من التراث الفقهي، ظل على مر الأيام أكثر التصاقا بالواقع، حتى في عهود التقليد والجمود، وهو لمتمثل في مدونات النوازل والفتاوى، التي كانت معبرة عن هـموم واقعية، وأصلة في فهم الدين بين الأصل المجرد وبين الواقع المعاش، ولكنها لم تجد مكانتها إلى جانب الفقه المدرسي المجرد.
وقد ازدادت هـذه الوضعية للتراث تجريدا وانقطاعا عن الواقع لما قدر للعالم الإسلامي أن تغزوه الثقافة الغربية، فتنأى بكثير من مظاهر حياته عن مقتضيات الفهم الديني المسجل في التراث، ليس على مستوى التأثر السلوكي فقط، بل على مستوى التقنين التشريعي في مجالات كثيرة من التعامل الاجتماعي والاقتصادي، فأصبح التراث بذلك لا ينأى عن لواقع في مستوى تطويره وحل مشاكله فحسب، بل يقصر عن الفعل فيه، ولو في صورته التجريدية القائمة على التقليد.
ورغم ما وقع منذ بداية النهضة الإسلامية الحديثة من محاولات لتحريك التراث، ودفعه إلى الفعالية الواقعية، فإن المتأمل اليوم في واقع المسلمين، في ملابساته المعقدة، المتطلع إلى التحول به نحو التدين الحق يلفي أن هـذا العمل الجلل لا يستطيع أن ينهض به فهم للدين، هـو ذلك الفهم الذي يتضمنه التراث على الوضع الذي هـو عليه الآن، في صيغته المدرسية المجردة، وأنه لا بد من نظر [ ص: 77 ] اجتهادي مستأنف، لفهم الدين فهما يراد به معالجة الواقع، وهو نظر يلتزم ضرورة فحص التراث، واستيعاب ما ورد من أفهام ثرية، ولكنه التزام استفادة واسترشاد واهتداء، وليس التزام اتباع وتقليد لأفهام السابقين على سبيل الحتم المفروض، فإن ذلك لا يبرره شرع، ولا ينصلح به واقع.
لقد عرضنا فيما تقدم، ملاحظات تتعلق بمصدر الدين الذي منه يفهم، ومنه تؤخذ تعاليمه، متمثلا في الوحي الإلهي، بصورتيه القرآن والحديث، مبينين خصائص هـذا المصدر وأساليبه في عرض الحقيقة الدينية، ومعقبين بدور التراث في فهم الدين من مصدره، من حيث إن هـذا التراث قد اعتبره بعضهم وسيطا محتوما، بين المجتهد في الفهم، وبين المصدر المجتهد فيه، فيما يشبه في ظاهره مشاركة للوحي في مصدرية الدين. وإنما عرضنا هـذه الملاحظات لأننا اعتبرنا ما جاء فيها أساسيا في عملية الفهم نفسها، فكيف يتم فهم الدين من مصدره إذا لم يسبق العلم بخصائص هـذا المصدر وأساليبه، وإذا لم يتم تمييزه مما اشتبه به، ولو في الظاهر عند بعض الناس؟ [ ص: 78 ]