الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

في فقه التدين فهما وتنزيلا [الجزء الثاني]

الدكتور / عبد المجيد النجار

4- مبدأ اعتبار المقاصد.

لكل حكم من الأحكام الدينية مقصد يهدف إلى تحقيقه في حياة الناس، وبتحققه في الواقع تتحقق للإنسان منفعة، أو تدرأ عنه مفسدة.

والرابطة بين الحكم، وبين مقصده، رابطة تلازم على مستوى التجريد، فما من حكم إلا له مقصد إليه يفضي، ومن أجله وضع، والكشف على هـذا المقصد يكون بالاجتهاد في الفهم، وقد يكون سهلا وقد يكون صعبا، بحسب درجة وضوحه في ليل الحكم، إلا أن مقاصد الأحكام وإن كانت لازمة لها في ذاتها لزوما منطقيا مجردا، فإن وقوع الأحكام على عين الأفعال في الواقع لا يلازمه بالضرورة المطردة حصول المقاصد منها؛ وذلك لأن أفعال الإنسان العينية في واقعها الزمني، قد تحف بها أعراض وملابسات تحول دون تحقيقها للمقاصد، من الأحكام التي أجريت عليها، فتطبق إذن الأحكام على مجريات الأحداث وتتخلف المقاصد التي من أجلها وضعت، ومثال ذلك أن حكم وجوب الأمر بالمعروف والنهي [ ص: 95 ] عن المنكر، مقصده حفظ المجتمع، وتحقيق سلامته وأمنه، وإحقاق الحق فيه، إلا أنه قد يأتي على جماعة ما ظرف يبلغون فيه من قساوة القلوب ما يجعلهم يقابلون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالعناد والإصرار، ويقابلون القائم بهذا الواجب بالأذى، فلا يتحقق إذن المقصد من هـذا الحكم بإجرائه في الواقع، وإن كان لازما له في الأصل.

ولذلك فإن اعتبار المقاصد في الأحكام لا يكفي فيه الاجتهاد النظري، الذي يهدف إلى الكشف عن مقاصد الأحكام، في منطقيتها التجريدية، فتلك مرحلة ضرورية أولى، تم ضمن ما سميناه بالاجتهاد في الفهم، ولا بد من مرحلة اجتهادية ثانية، عند صياغة الأحكام، بقصد تهيئتها لمعالجة الواقع، وهي مرحلة يتم فيها اعتبار المقاصد في الأحكام، من حيث حصولها في الواقع، عندما تطبق تلك الأحكام على مشخصات الأحداث، فيكون رجحان الظن بحصولها أو تخلفها، ميزانا في صياغة الأحكام، بقصد إدراجها في خطة المعالجة الإصلاحية، اعتمادا لما يرجح الظن بتحقيقه مقصده، في الواقع من الأحكام، وعدولا بوجه من وجوه العدول عما يرجح الظن أنه لا يحقق مقصده، لأعراض تلم بالوقائع المراد إجراء الأحكام عليها.

وكما أن للكشف الاجتهادي عن مقاصد الأحكام في مستوى تجريدها مسالك وطرقا يتم بها الوقوف عليها يقينا أو ظنا [ ص: 96 ] راجحا. [1]

فإن الوقوف على تحقق المقاصد من أحكامها في الواقع، أو عدم تحققها، يكون بطرق ومسالك خاصة به، مغايرة للأولى لاختلاف طبيعة النظر الاجتهادي، بين النظر لكشف مقاصد الأحكام مطلقا، وبين النظر للتحقق من ملازمتها لها، عند تنزيلها على واقعات الأحداث.

ولسنا نجد في الأدب الأصولي الفقهي ما ينير سبيل المجتهد في هـذا الباب، من بيان تنظيري، ينحو منحى التقعيد المرشد، لمن يريد أن يركب هـذا الصعب من الاجتهاد، إلا أن تكون إشارات مبثوثة في دواوين من أولى عناية لموضوع المقاصد، تنحو أكثرها منحى التمثيل العملي المتوارث لا التقعيد المؤصل للبحث، وإذا كان ما بذله الإمامان الشاطبي ، وابن عاشور ، من جهد في تقعيد مسالك الكشف عن مقاصد الأحكام الشرعية قد أنار السبيل على قدر للمجتهد في تبين مقاصد الأحكام المجردة، فإننا نحسب أن خلو الأدب الأصولي من بيان واف لقواعد تعرف بالمصير الواقعي لعلاقة الحكم بمقصده يعتبر إحدى أكبر الثغرات في هـذا الأدب، وربما عادت كثير من المزالق في الاجتهادات الفقهية قديما وحديثا إلى هـذه الثغرة في أسباب وقوعها.

والمنهجية العامة التي يقوم عليها النظر الاجتهادي في تبين حصول المقاصد من الأحكام، تقوم على تحليل الواقع المراد [ ص: 97 ] علاجه تحليلا علمي، ثم مناظرة مقصد الحكم، بعد ما يكون قد حصل، بالفهم بعناصر ذلك الواقع، في عوارضه التشخيصية الناشئة من خصوصيات ظروفه، وبناء على تلك المناظرة يقع تقدير ما إذا كان المقصد من شأنه الحصول في الواقع بخصوصياته، أو ليس من شأنه ذلك، ولا يخفى أن هـذا التقدير يحتاج إلى قدر كبير من الفقه بالواقع، ومن استنارة البصيرة بنور الإخلاص والصدق. وإننا لنرى اليوم، في خصوص هـذا النظر الاجتهادي فئتين متناقضتين، ممن ينشغلون بتوجيه حياة المسلمين، وجهة الدين القيم: إحداهما لا ينقصها الإخلاص والصدق، ولكن ينقصها الفقه بالواقع وملابساته، فإذ بها تدعو إلى تطبيق الأحكام دون علم بمآلات مقاصدها، وتصوغ من ذلك خطط إصلاحها، وتشرع في تنفيذ ما تقدر على تنفيذه، فتسقط دعوتها أحيانا كثيرة في نقيض ما رامته من إصلاح، والثانية لا ينقصها العلم بالواقع، ولكن ينقصها الإخلاص والصدق، فإذا بها تدعي أن الواقع "المعاصر " لا يتحمل كثيرا من الأحكام والشرعية، لعدم تحقق مقاصدها فيه، وهي بذلك تئول إلى ضرب إهدار للدين من أساسه، بنقضه عروة. وبين خطأ أولئك وهؤلاء تبقى الضرورة قائمة لتنظير أصولي متين في هـذه القضية، يقطع مسالك الخطأ، ويسدد النظر الاجتهادي في صياغة أحكام الدين بقصد التنزيل.

ومن المهم أن نلاحظ في خاتمة هـذا الفصل، أن كلامنا في هـذه [ ص: 98 ] المبادئ، التي تتأسس عليها صياغة الشريعة، بما اشتمل عليه من أمثلة جزئية، وما مال إليه من تركيز على إصلاح الواقع الموجود بالفعل في أنماطه القائمة، لا ينبغي أن يفهم منه أن هـذه ا لمبادئ لا تصلح إلا في اجتهادات جزئية متفاصلة، تهدف إلى ترقيع ما يقع في حياة المسلمين من نوازل ذات طابع فردي جزئي، وحقيقة قصدنا بهذه المبادئ أن تكون مبادئ للتفكير الفقهي، من حيث إعداد الأحكام للتطبيق، سواء بترشيد ما يقع، أو بالتخطيط لما ينبغي أن يقع، فيتجه هـذا التفكير إلى إحداث أنساق فقهية شرعية، تدرج فيها الأحكام ترجيحا وتحقيقا واستثناء واستحداثا، بحسب ما يقتضيه علاج الوضاع القائمة في حياة المسلمين، وتطويرها إلى ما يرقي التدين فيها، ولا يكون محكوما في منهجيته بالنسق الذي بني عليه التراث الفقهي المتأخر، بناء مدرسيا تجريديا. وهذا المعنى هـو الذي عبر عله أحد فقهاء الدعوة المعاصرين بقوله : لو كان لنا أن نبدأ من حيث انتهينا لعرضنا كذلك فقه الإسلام عرضا دقيقا، يركز على مقاصد الدين، وضرورة الترجيح دائما بين تلك المقاصد وترتيبها، حتى إذا نشأت حاجات العمل، تزود الناس بفقه لتصريف الأحكام وترتيبها، ولم نبسطها بسطا أفقيا تترتب فيه كلها كأنها سواء. [2] [ ص: 99 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية