أوجه الاعتراض على هـذا المعيار
يمكن حصر الاعتراضات على هـذا المنهج، في ثلاث نقاط:
1- خطأ التسوية بين الظاهرة الطبيعية، والظاهرة الاجتماعية. [ ص: 59 ]
2- الحياد حيال القيم.
3- عدم الواقعية في هـذا المعيار.
ونبدأ بالاعتراض الأول:
1- خطأ التسوية بين الظاهرة الطبيعية، والظاهرة الاجتماعية
لقد كان الخطأ الأساس في المنهج العلمي الذي تبناه علم الاجتماع، هـو التسوية بين البحث في الظاهرة الاجتماعية والظاهرة الطبيعية، علما بأنه لا مجال للاتفاق بينهما، فبينما يمكن الوصول إلى حقيقة الظاهرة الطبيعية، حين تنفصل عن سياقها الزماني والمكاني، الذي تقع فيه، فإن الوصول إلى حقيقة الظاهرة الاجتماعية، يستحيل، حيث تجرد من سياقها الزماني والمكاني، وحين تسلب من محيطها الديني الخلقي والاجتماعي الذي يتحكم في حركتها [1] .
إن أي ظاهرة إنسانية، اجتماعية كانت أو فردية، لا تتكون من عناصر مادية خالصة، يمكن ملاحظتها بالحواس، ومعرفة كمها وقياسها، بل هـناك عناصر أهم تتدخل في تكوينها والتحكم فيها وهي العناصر المعنوية والروحية، ولا يكتمل وصف الظاهرة الإنسانية دن الرجوع إليها، كما لا يمكن ردها إلى المحسوس، ولا يمكن عزلها ولا فصلها عن محيطها. كما لا يمكن أيضا إخضاعها للقياس الكمي الذي لا يعرف العلم غيره، ولا تخضع لقانون ثابت أبدا، وفي هـذا المجال يمكنني أن أضرب هـذا المثال: إن الشعور بالفقر والحرمان والإخفاق، قد يسلم صاحبه إلى اليأس والقنوط من الحياة، ومن ثم الانتحار هـربا من مشاكله. كما يؤدي بإنسان [ ص: 60 ] آخر إلى الجد والاجتهاد والثبات، وحضور الأمل، وبالتالي قهر المشاكل والتغلب عليها.
ومرد ما سبق إلى اختلاف الشخصين في مدى حظهما من الإيمان العميق، وسلامة الشخصية، وسداد التفكير، ونوع التربية [2] .
ومن ناحية أخرى، فإن الظواهر الاجتماعية لا تتشابه، بل تختلف باختلاف الجماعات الإنسانية، حيث تعتمد على تقاليد الثقافة والدين، وعلى الهوى الشخصي والجماعي، الذي لا يمكن تحديده بشكل شامل [3] .
ومن هـنا فإن تحديد مادة العلم بما يمكن رصده وقياسه، يعتبر انتقاصا لجانب الحقيقة، التي تشتمل على جانب آخر لا يقاس.
فعلماء الاجتماع الذين يتمسكون بالمنهج العلمي، كما ورد سابقا يؤمنون بعالم الشهادة فقط، وهو العالم الذي تدرك الحواس جزئياته في الحياة الأرضية، وما يحيط بها من كون مادي، ولا شيء قبل هـذا الكون المادي المشاهد، ولا شيء بعده، فلا يعالج ما وراء الطبيعة، ولا يتعامل مع عالم الغيب، كما يرفض الوحي السماوي بصورة مطلقة، ويهدم حقيقة النبوات والمعجزات، ولا يؤمن إلا بما هـو محسوس.
أمثلة على التسوية بين الظاهرتين: [ ص: 61 ]
نظرا لاعتماد علم الاجتماع على المنهج العلمي، الذي يسوي بين الظواهر الاجتماعية والظواهر الطبيعية، مع خطأ التسوية بينهما، فقد كثرت الأخطاء في البحوث الاجتماعية، خصوصا عند تناولها للدين.
ولعله من المناسب هـنا أن نورد رأي محرر دائرة معارف العلوم الاجتماعية، عند حديثه عن الدين، لنوضح أن المنهج العلمي عند علماء الاجتماع الغربيين، ليس كاملا بل ينقصه التعامل مع عالم الغيب.
فقد رأى أنه يمكن تشبيه " الدين " بـ " الفن " ، فكما أن بعض الناس يتمتعون بقوة غير عادية في التذوق الفني، كذلك ينفرد بعض الناس بخصائص " العيون والآذان الداخلية " ، يلتقطون بها ما لا يتمكن الإنسان العادي من سماعه أو رؤيته. وهذا الشيء هـو الذي قاد الإنسان إلى تجارب الدين [4] .
ويكتب آخر: " إن خصائص الدين المتعلقة بما بعد الطبيعة، لا معنى لها إذا نظرنا إليها بمفهومها الديني.
أما إذا أعطينا هـذه الحقائق لغة المجاز، فإنها قد تصبح ذات معنى مثلما نقول على شخص ما إذا اكتشف شيئا جديدا: " لقد كان هـذا إلهاما " ، فهكذا " يتنزل " الإلهام على الشاعر، وكذلك على النبي " [5] .
ويرى أيضا أن الوحي، لا معنى له إذا نظرنا إليه على أنه كلمات الله التي نقلها أحد الملائكة إلى إنسان مخصوص. بل إن أمر الوحي يكون مفهوما لو قلنا عنه: إنه " ضوء البصيرة الداخلية " . لأننا نعرف أن الفنان أو المفكر كليهما تخطر له بصورة خاطفة، أفكار من نوع ما، وهكذا الحياة بعد الموت، [ ص: 62 ] يمكن فهمها في لغة تمثيلية، أما إذا نظرنا إليها بالمفهوم اللفظي الظاهري، فإنها تصبح بدون معنى، وذلك لأننا نعرف أن الجسم تنتشر أعضاؤه بعد الموت، وتنتهي معه الروح، ففي ضوء هـذا الأمر تكون الحياة بعد الموت غير مفهومة بمعناها اللفظي [6] .
ولعل من أشهر من درس الدين من علماء الاجتماع " دوركايم " ، الذي ألف كتابا بعنوان " الصور الأولية للحياة الدينية " عام 1912م، حاول فيه تطبيق المنهج العلمي السابق على دراسة الدين في أكثر صوره أولية.
والحق أن أصل الدين، لا يمكن أن يستخلص من دراسة مجموعة الطقوس والشعائر الدينية، حين تدرس بمنهج الملاحظة الاجتماعية أو الأسلوب الإحصائي، أو دراسة الحالة، أو المسوح الاجتماعية، وغيرها من مناهج علم الاجتماع، وأي دراسة من هـذا القبيل لا تستعين بالوحي، فإنما هـي ضرب من الحدس والتخمين، لا تمت إلى العلم بصلة؛ وذلك لأنه لا سبيل إلى البحث في أصل الدين ونشأته عن طريق التجربة، والبحث العلمي، لبعده عن حيز المشاهدة، وارتباطه بالزمن الماضي البعيد، لذلك فلا مندوحة عن استعمال التأمل والتفكير المجرد، الذي كثيرا ما تندس خلاله العناصر الشخصية، غير العلمية، بحيث تسيطر على الباحث فكرة سابقة، لا يستطيع التخلي عنها حتى ولو حاول، فإذا انطلق الملحد ليبحث في أصل الدين، فلا يمكن أن يتحرر من فكرته عن الدين. وكذلك من يحمل فكرة خاطئة عن الدين، كعدم التمييز بين السحر والدين، أو عدم التمييز بين وجود الله في ذاته، وفكرة الإنسان عن الله وعقيدته به. [ ص: 63 ]
وغالبية علماء الاجتماع من الغربيين، لا يستطيعون التخلص من ردة الفعل، التي أحدثتها عندهم المسيحية المحرفة، حيث أورثتهم عداء للدين عامة، نتيجة لطبيعتها في ذاتها عندما حرفت، ونتيجة لمحاربتها للعلم وأهله، ومصادمتها للعقل. ومن هـنا فقد كانت بحوثهم عن أصل الدين خاطئة ومضللة، ومخالفة لحقائق القرآن الكريم.
وعلماء الاجتماع يسوون بين نوعين من الموضوعات والنظريات والحقائق في البحث، مع اختلافهما الواضح، ومن المهم جدا التفريق بينهما:
1- الحوادث الاجتماعية التي هـي تحت سمعنا وبصرنا، مما يمكن مشاهدته، وجمعه، ودراسته، ووصفه، وتصنيفه.
2- الأمور التي لا يمكن إخضاعها لطرائق البحث العلمي الدقيق، وذلك كالبحث في نشأة الأديان، وأصول اللغات، وما إلى ذلك [7] .
فالأمر الثاني تحدثنا عنه فيما سبق، وعرفنا كيف تخبط علما الاجتماع في دراسته. وقد كثرت فيه النظريات واختلفت، وجميعها لا تمت إلى العلم بصلة. وينبغي أن ننبه هـنا إلى أن موضوعا كالظواهر الدينية بالنسبة لكل دين عند المؤمنين به، وذلك كالفرق الإسلامية مثلا، لا تعتبر من هـذا الصنف، بل تكون مندرجة تحت الصنف الأول، وكذلك تطور اللغات وأصواتها ومعاني مفرداتها وتراكيب جملها، فإنها من الأمور المشاهدة التي يمكن جمعها والنظر فيها، ومقارنة بعضها ببعض. [ ص: 64 ]
وأما بالنسبة للصنف الأول، فإنه يمكن دراسته، والوصول فيه إلى نتائج صادقة وصحيحة، إلا أنها لا تبلغ ما تبلغه نتائج البحوث الطبيعية من صدق وصحة. علما بأن المنهج المتبع حاليا لا يخلو من ملاحظات.
ويمكننا أن نلخص ما سبق في: أن مصدر المعرفة بالواقع الاجتماعي، لا يقتصر على المنهج العلمي المتمثل في التجريب والتحليل وحده، بل هـناك مصادر أخرى لاكتساب المعرفة، أهمها الوحي، إضافة إلى الإلهام والحسد، كما أن الواقع الاجتماعي نفسه، ليس مقصورا على الشاهد المحسوس فقط، بل إنه يشتمل على المعنويات والروحانيات التي لا تحس ولا تقاس. وإذا قصرنا الواقع على ما يلاحظ ويحس، فإننا بذلك نستبعد القيم الأخلاقية والدينية، التي تعتمد على معايير محددة سلفا.
2- الحياد حيال القيم
إن المنهج العلمي يؤكد الحياد حيال القيم من قبل الباحث، حتى لا تغطي عقيدته الموجهة، وأمانيه ورغباته على حقيقة الواقع الاجتماعي، تحقيقا للموضوعية الكاملة. وليس معنى هـذا أن عالم الاجتماع شخص بلا قيم، ولكنه يعني - كما يرى علماء الاجتماع - أن يبذل الباحث جهدا لكي يعلق قيمه كما يعلق معطفه، فما دام خاضعا لاعتبارات الخطأ والصواب، فإن تصوراته ومقاييسه الخاصة عن الحقيقة، سوف تتسلل إلى بحوثه وتحليلاته الاجتماعية. وقد خصص عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر ، جزءا كبيرا من اهتمامه لمعالجة هـذا الموضوع، وقد شدد على الابتعاد عن خطر الأحكام الأخلاقية، التي تعتبر من مشوهات نتائج الدراسة، وذهب إلى أكثر من هـذا حين دعا إلى الإقلاع عن كل فكرة إصلاح، [ ص: 65 ] أو تقويم، فعالم الاجتماع في رأيه ليس مصلحا اجتماعيا ولا نبيا. وأكثر ما يجب عليه هـو أبحاث تفيد المعرفة كمعرفة [8] .
فليس من حق الباحث في علم الاجتماع، أن يصدر أحكاما تقويمية، فيقول: بأن هـذا السلوك أو هـذه الظاهرة صحيحة أو معتلة، ويجب تقويمها أو المحافظة عليها.
وبذلك تكون مهمة عالم الاجتماع: الملاحظة، والوصف، والتحليل، والتفسير فقط، ولا يجوز له أن يعدوها إلى إيرها، كأن يقف موقفا نقديا، أو أن يبدي وجهة نظر معينة، أو يصدر حكما تقويميا.
ومع أن هـذه الدعوة مستحيلة التحقق؛ نظرا لأن مواضيع علم الاجتماع تتعلق، بالنسبة لأي باحث، بميوله، ورغباته، وعقيدته، وحبه، وبغضه، إلا أنها تشكل مبدأ هـاما من البحث في علم الاجتماع، وعلى حد تعبير جولدتر فقد اتخذت هـذه الدعوة شكل وصية تقول: " لا تصدر حكما تقويميا " ، وهي وصية تمتلئ بها الآن كل الكتب المدرسية [9] .
ونظرا لأن علم الاجتماع يأمر الباحث بإخفاء عواطفه وميوله ومعتقداته، في سبيل الوصول إلى الحقيقة، " التي يظن أنها خارج الذوات والرغبات والمعتقدات، وأنها لا علاقة لها بما يشعر به الإنسان، أو يدركه، أو يحياه، بل هـي في عالم منفصل عن الإنسان، وتدرك عن طريق التجربة والملاحظة " ، فإن علم الاجتماع، في نظر علمائه، [ ص: 66 ] يؤدي خدمة جليلة، وذلك بتوعيتنا بنسبية القيم والأخلاق، وأساليب السلوك الشائعة في عالمنا الإنساني. وإدراك هـذه الحقيقة هـو بداية الطريق نحو إكسابنا القدرة على فهم القيم، وأساليب السلوك الشائعة، عند أبناء مجتمعات وثقافات غريبة عن مجتمعنا وثقافاتنا، وتمكيننا من الإحساس بحقيقة مشاعر غيرنا من البشر. ويعني هـذا: التخلي عن الشعوبية، ومشاعر التمركز حول السلالة [10] .
ويعني هـذا أيضا في النهاية: تلك العبارات التي ذكرها عالم الاجتماع الأمريكي " ويليام سمنر [11] ومؤداها، أن الأعراف تصنع الصواب " ، وكان يقصد بذلك أن مفاهيم الصواب والخطأ والخير والشر تعتبر نسبية، وأن الذي يضفي عليها النسبية، هـي المعايير والعادات الشعبية السائدة في نظام اجتماعي معين. فالزنا يعتبر سلوكا انحرافيا يوجب العقوبة التي تصل إلى حد القتل في مجتمعنا، ولكنه لا يعتبر كذلك في مجتمعات أخرى، فمصر القديمة مثلا كانت تنظر إلى الاتصال الجنسي بين أبناء الصفوة، بوصفه سلوكا لا يخضع للتحريم [12] وعندما يعلق عالم الاجتماع قيمه، كما يعلق معطفه، فإنه يتحاشى البت في مثل عادة بعض قبائل الأسكيمو " الذين يعلقون الرجل المسن الذي يعجز عن الصيد، على حائط، أو يلقون به في البحر ليموت " ، [ ص: 67 ] من ناحية الصواب والخطأ، ويكتفي بالقول: إن مستويات الصواب والخطأ، والحسن والرديء، تنسب إلى الثقافة التي تظهر فيها، فما يكون صوابا في مجتمع ما، قد يكون خطأ في مجتمع آخر. فقتل الأطفال الذي توافق عليه بعض الجماعات تحت ظروف خاصة، يعتبر إجراما في جماعات أخرى، والعفة قبل الزواج مطلوبة في أحد المجتمعات، وغير مستحبة في الآخر. وبناء على ذلك، فإن الصواب والخطأ يعتمدان على ما يتقبله الناس على أنه كذلك، ويصبح بإمكان الثقافة أن تجعل أي شيء صواب أو خطأ، بالنسبة لأعضاء مجتمع معين، ويصبح معنى الأخلاق: " ما هـو أخلاقي بالنسبة لنا " [13] .
إن الاختلاف بين المجتمعات في معتقداتها وعاداتها ونظمها، واقع يشاهد ويوصف. ولكن عالم الاجتماع المسلم لا يختلف عنده الحكم عليها عن وصفها وصفا حقيقيا مطابقا للواقع؛ وذلك لأنه يعتقد اعتقادا جازما بأنه يملك الحقيقة المطلقة، وهي الإسلام، الذي ارتضاه الله للناس كافة، فليس الواقع الاجتماعي شيئا، إذا لم يكن خروجا على قيم الإسلام، أو دخولا في قيمه [14] ومن ثم فهو لا يغفل ما ينبغي أن يكون عليه الواقع المدروس: ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) [آل عمران:110].
فالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، من أبجديات إسلام المرء، ولا يعفيه من هـذه المسئولية كونه عالم اجتماع، أو اقتصاد، أو طب، [ ص: 68 ] أو هـندسة، بل الجميع يتحملون مسئولية جعل كلمة الله هـي العليا. وإن المسئولية لتتضاعف إذا علمنا أن " العلماء ورثة الأنبياء " ، وقد بعث الله الأنبياء والرسل لا لمجرد التبليغ والإعلام فقط، بل لطاعتهم فيما جاءوا به، ( وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ) [النساء:64].
فمهمتهم هـداية الناس لمنهج الله، وكذلك العلماء يتحملون هـذه المهمة بعد أن ختم الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم وانقطع الوحي.
وما كان الأنبياء يكتفون بوصف ومعرفة أحوال المجتمعات، بل كان كل منهم رافضا لكل انحراف، وداعيا إلى ما يحمله من خير:
( ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين * أن لا تعبدوا إلا الله ) [هود:25-26].
( وإلى عاد أخاهم هـودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) [هود:50].
( وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) [هود:61].
( وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان ) [هود:84].
إن عالم الاجتماع المسلم له أسوة حسنة في رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك فهو مشغول دائما بقضية الإسلام، سواء بدعوة غير المسلمين إليه، أو رصد حركة المجتمع المسلم السلبية والإيجابية، فيقوم السلبي، ويعزز الإيجابي. فهو لا يقف عند فهم وتحليل الوضع الاجتماعي فحسب، بل يتعداه إلى تغييره وتحويله إلى وضع يقوم على هـدي الإسلام الحنيف. فهو ناقد، ومقوم في الوقت نفسه، إضافة إلى أنه علمي في منهجه، لا يكف عن البحث عن الحقيقة. [ ص: 69 ]
3- عدم الواقعية في هـذا المعيار
في ملاحظاتنا السابقة على المنهج العلمي في علم الاجتماع، لاحظنا الحرارة الزائدة عند الحديث عن قيم الباحث وحياده حياله، وفي هـذه الملاحظة نتساءل: هـل طبق علماء الاجتماع الغربيون هـذا المبدأ؟
لقد كشف علم اجتماع المعرفة، عن تداخل مجموعة كبيرة من العوامل المرئية وغير المرئية في تشكيل فكر الباحث. فالباحث لا يستطيع الانفلات من معتقداته وقيمه،والظروف المحيطة به، بل إنها تؤثر تأثيرا كبيرا لا على رؤيته للحقيقة الاجتماعية فحسب، بل حتى على انتقائه لموضوعات دراسته. وإذا عرفنا أن عالم الاجتماع يبحث المواضيع المتصلة بالقيم والدين والمعتقدات، وكذلك مواضيع أنظمة الحكم، والأسرة، والاقتصاد، والاجتماع، عرفنا إلى أي درجة يلتصق عالم الاجتماع بموضوعات بحثه. وإنه لا يمكن إلا أن يكون إنسانا عاديا تجاهها. فكما أن الإنسان العادي يتأثر بأوضاعه الدينية والاقتصادية والأسرية، فكذلك عالم الاجتماع لا يمكن أن يتحرر من كل ذلك.
لقد أكد " جون ديوي [15] أن الإدراك، وهو أول ثمرة للملاحظة الحسية، لا يمكن أن يكون محايدا، وإنما يتأثر دائما بخلفيات الملاحظ السابقة، وحظه من المعرفة، وبذكائه " [16] . [ ص: 70 ]
ومن هـنا، فإن أحكام الباحثين تتأثر بنظرياتهم، وفروضهم، وخلفيتهم المعرفية، وهذا هـو السبب الذي دعا روبرت مرتون [17] لأن يعترف بأن في الولايات المتحدة خمسة آلاف عالم، لكل واحد منهم علم الاجتماع الذي يخصه [18] وحده، وذلك نتيجة تعدد العقائد الخاصة بكل عالم، رغم انتماء غالبيتهم إلى عقيدة المجتمع الرأسمالي.
ورغم اعتراف ميرتون السابق، واعتراف غيره بتعدد علوم الاجتماع، فإنه يذهب مع غيره من العلماء مثل لا زارس فيلد ، وتالكوت بارسونز [19] إلى أنهم يعتبرون أنفسهم علماء اجتماع علميين، يقومون بدراسات نظرية وأمبريقية بحتة، لا علاقة لها بعقيدة سياسية أو غيرها. ومع هـذا فإن الواقع يكشف عن أن الدراسات التي قام بها عالم غربي في مجتمع غربي، هـي بالضرورة غربية، لا تنطبق على مجتمعات المسلمين.
ومن ناحية أخرى، فإن علماء الاجتماع، لم يكونوا منعزلين، رغم ادعاءاتهم السابقة، عن عقائد الغرب السياسية والفكرية، بل كانوا مخلصين في خدمتها. يكشف هـذا بجلاء، علم الاجتماع في عهد الاستعمار، فقد كان ذا نزعة استعمارية.
فالدراسة المقارنة للإدارات الاستعمارية، والثقة الكبيرة في التحليلات الاجتماعية، والدراسة المنهجية للمجتمع، والدين، والمؤسسات، [ ص: 71 ] واقتصاد المنطقة، التي يراد استعمارها، كل ذلك جعل من الممكن إقامة الاستعمار على أساس علمي، يخفف كثيرا من الخسائر التي تلحق بالدول الاستعمارية فيما لو سلكت سبيل الهجوم والطعنات الخاطفة. فبواسطة علم الاجتماع الاستعماري، يمكن تسجيل نقط ضعف المجتمع واستغلالها، وتسجيل نقط القوة وإضعافها، أو تحييدها. ويمكن أن نمثل على ذلك بالجهود التي بذلت في أواخر القرن الماضبي، وأوائل هـذا القرن في دراسة المغرب العربي من قبل الاستعمار الفرنسي.