أولا: الـوحـي
ليس من الغريب أن يكون الوحي، قرآنا وسنة، مصدر من مصادر علم الاجتماع الإسلامي، فبالإضافة إلى أن كل علم إسلامي، لا بد أن يستمد مصادره الأولى، وأسسه من القرآن والسنة، فإن علم الاجتماع على الخصوص، الذي يدرس علاقة البشر بالبشر، لا يستطيع أبدا أن يستقل بعيدا عن الوحي، وإلا فإنه سيقع في متاهات، لا يعرف دروب الحقيقة؛ لأن الوحي نظم كثيرا من شئون الحياة الفردية والاجتماعية تنظيما لا يجوز لأي مسلم مهما كان، الخروج عليه، كما أن الوحي هـو أوامر الله سبحانه وتعالى ونواهيه، التي بلغها جبريل للرسول، مما يعني أنها إرادة الله الذي يعلم كل ما يصلح للإنسان، منفردا أو في جماعة، [ ص: 130 ] ومهما حاول البشر من أي الجنس، فإنهم لن يجدوا أفضل مما أراده الله لهم، " والحال أن الوحي من حيث هـو علم الله الكامل، لا يمثل ذلك الماضي، ولا الحاضر ولا المستقبل، بل هـو يمثل ذلك الماضي، ولا الحاضر ولا المستقبل، بل هـو يمثل الحقيقة الأزلية، التي لا ترتبط بالزمن، ولا تخضع له.. فهو ليس تاريخا للبشرية، أو حركة حضارية، تختص بمرحلة من مراحل تطور تاريخ أمة من الأمم " [1] . ومن هـنا فإن الأحكام التي تأتي بها الشريعة الإسلامية، يسلم بها عالم الاجتماع المسلم، دون أي تردد، ويقتصر دوره حيالها على صياغتها صياغة فنية، تناسب الأساليب المتبعة في علم الاجتماع. فرأي الشريعة نهائي في الأحكام، التي نصت عليها. وقد أثبت التاريخ أن الأحكام التي تأتي بها الشريعة رأيها فيها بشكل نهائي، وأثبتت تجربة التاريخ صحة الحل الشرعي.
1 - حرمت الشريعة الربا ، حيث قال الله تعالى : - ( وأحل الله البيع وحرم الربا ) (البقرة:275) ، بينما أجازته القوانين الوضعية، باعتباره صفقة تجارية كالبيع. وتعامل معه علماء القانون والعلوم الاجتماعية على هـذا الأساس. وقد أثبت التاريخ عصمة الوحي الإلهي. وبطلان الأحكام الوضعية التي يتوصل إليها البشر بأنفسهم، بعيدا عن الوحي، " فبسبب تحريم الربا استمر الاقتصاد الإسلامي لمدة ألف سنة، دون أن تظهر طبقة فاحشة الغنى، وأخرى فاحشة الفقر. والنظام الاقتصادي الحديث القائم على الربا، هـو أول نظام من نوعه أنشأ الوضع الاقتصادي القلق في المجتمع، بتوزيع الثروات طريقة غير عادلة، [ ص: 131 ] وهذا النظام عاجز عن حل هـذه المعضلة " [2] . " إن الربا هـو الطريقة الوحيدة في التعامل الاقتصادي التي تجعل دورة الثروة تجري في اتجاه واحد، عن هـذه الخاصية في الربا هـي التي جعلت النظام الصناعي نظاما استغلاليا " [3] .
2 - قال تعالى :- ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم ) - (المائدة: 38) . فالعقوبة في الشريعة الإسلامية تعتمد على أن الإنسان تعتمد على أن الإنسان مخلوق له كامل الحرية والإرادة في اختيار أفعاله، فعند ارتكابه أي جريمة عمدا، فإنما هـو بقصده وإرادته، ولذلك قررت الشريعة عقوبات رادعة للمجرم، وفيها عبرة للآخرين، وزجر لهم، ليخافوا من مصيره، وعلى هـذا فقد حكمت الشريعة بقطع يد السارق، وقتل القاتل العمد، وغير ذلك من العقوبات، وفي هـذا العصر ظهرت نظريات تخالف ما سبق، ترد سبب الجريمة إلى الأحوال الاجتماعية المحيطة بالفرد، فالجريمة كما يرى أحد علماء الاجتماع، ولكنها على العكس تشكل جنوحا اجتماعيا، هـو حصيلة تعاون كل من النظام الاجتماعي وثقافة المجتمع، على نشوئه وتطويره [4] . فهي عمل اضطراري غير متعمد، يكمن سببه في الأحوال الحياتية والأمراض العقلية، والعسر المادي، والأحوال الاجتماعية، وطالبت هـذه النظريات باعتبار المجرم مريضا تجب معالجته وإصلاح أحواله بدلا من معاقبته، وقد حازت هـذه النظريات على الإعجاب، وعملت بها غالبية الدول في العصر الحاضر، فأقيمت الإصلاحيات بجل السجون، وألغيت العقوبات [ ص: 132 ] الرادعة للجرائم الأخلاقية، ومع ذلك فقد زادت للجرائم. واضطرت بعض الدول إلى إعادة عقوبة الإعدام بعد أن ألغتها [5] .
3 - تنظر الشريعة الإسلامية إلى علاقة الرجل بالمرأة، على أنها علاقة متكاملةـ يكمل بعضها بعضا، فدور المرأة مكمل لدور الرجل، وعلى هـذا بينت أحكامها المختلفة، ويقتضي ذلك اختلاف مجال عمل المرأة في بيتها، ومجال عمل الرجل خارج البيت.
ولكن الدراسات الحديثة - ومنها دراسات في علم الاجتماع، روجت لفكرة أخرى تدعي المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة، وأن كلا منها نسخة طبق الأصل للآخر. وهذا اقتضى أن يعما كل من الرجل والمرأة في مجال واحد، بدون تميز أو تفريق. وقد أصبحت هـذه النظرة هـي المسيطرة حاليا في العالم. وقد بدأ الناس يدركون مساوئها. ويشعرون بفداحة خلط الأدوار، مما يؤيد رأي الشريعة، وقد نشأت كثير من المشاكل عن هـذا الخلط، نذكر منها هـنا أمرين فقط:
(أ) مشكلة الأولاد المحرومين من تربية الوالدين، حيث ينهمك الوالدان في عملهما خارج البيت، ولا يتاح لهما فرصة الرعاية والإشراف على الأولاد.
(ب ) مشكلة كبار السن، " فبينما يعاني الأطفال الحرمان من حنان الوالدين، يعاني الكبار الحرمان من الأقرباء والأصدقاء المخلصين الأوفياء " [6] . لذلك يعوض هـؤلاء هـذا النقص بعقد صداقات حميمة مع الحيوانات كالكلاب والقطط والطيور الخ. [ ص: 133 ]
إن الأمثلة السابقة تثبت أن التاريخ العملي للبشرية يقف إلى جانب الشريعة الإسلامية، مؤيدا صلاحيتها، ومصداقيتها، فالشريعة الإسلامية وهي كل ما شرعه الله لتنظيم الحياة البشرية، تتصف بالكمال والشمول والثبات، " فالكمال لأنها من لدن إله خبير بمكنون النفس البشرية، والشمول لأنها تضمنت كل ما يتصل بالحياة البشرية، من عبادات ومعاملات ونماذج سلوك، أما الثبات فلأنها لم تكن شريعة الخاصة، أو شريعة العرب، أو شريعة زمان أو مكان بعينه، وإنما هـي شريعة كل زمان وكل مكان وحتى تقوم الساعة " [7] فالقرآن والسنة جاءا بلسان العرب، وألفاظهم وطريقتهم في التعبير، ولكن المعاني التي يحملانها لا توصف بالعربية، ولكنها إنسانية، تهم وتهتم بكل البشر، في أي مكان، وفي أي زمان.
وإذا كان علو الاجتماع يهدف إلى معرفة الظواهر الاجتماعية معرفة علمية، بقصد التحكم في المجتمع، وتنظيمه، وسن القوانين المناسبة، فإن علم الاجتماع الإسلامي يقف مسلما عند أحكام الشريعة الإسلامية، كما وردت في الكتاب والسنة. وبعد أن سنها الله سبحانه وتعالى ، وأثبت التاريخ أفضليتها إلى غيرها. فقد وضع القرآن الكريم الإطار الرئيس لشكل وطبيعة العلاقات داخل المجتمع الإسلامي، ويحتكم إليه المسلمون في كل الأمور التي يختلفون فيها. وما كان مجملا في القرآن فصلته السنة، وقد أكد القرآن على ضرورة الأخذ عن السنة النبوية. قال تعالى: - ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) - (النساء: 59) .
فالمجتمع الإسلامي هـو صنيعة الشريعة الإسلامية وليس صانعها، [ ص: 134 ] حيث استهدف الإسلام منذ للحظة الأولى خلق الإنسان العابد والجماعة العابدة، كأساس للمجتمع الصالح، والدولة الصالحة.. ولذلك عملت الشريعة الإسلامية على تنظيم العلاقات المختلفة لذلك الإنسان، بما يحقق هـدف استخلافه في الأرض [8] . وهو بذلك يختلف عن المجتمع ذي القوانين الوضعية، الذي يضع قوانينه بنفسه، حيث تكون غالبا ردود فعل لذلك المجتمع في ذلك الوقت. وعلى هـذا فإنه ما يلبث حتى يطور، ويغير، ويلغي ويستحدث منها ما يوافق ظروفه المتغيرة.
إن إيمان عالم الاجتماع المسلم بالأحكام الشرعية، التي جاء بها الوحي، تجعله ينظر إليها على أنها أصلح للناس من غيرها، لذلك فهو ينقد انحراف المجتمع عنها، ولا ينقدها هـي. وهذا يخالف ما عليه كثير من علماء الاجتماع الذين نذروا أنفسهم لمحاربة أحكام الشريعة والانتقاص منها.
وهكذا نرى مما سبق: أنه لا يمكن فصل علم الاجتماع عن الشريعة الإسلامية كما وردت في المصادر الأساسية، وهي القرآن والسنة النبوية.
ويمكن أن نضيف في علاقة علم الاجتماع بالوحي الإلهي ما سبق أن ذكرناه من الأساس العقدي، الذي يكون نظرة الإنسان إلى الكون والحياة، وما وراءهما، وكيف أنها تؤثر في نظرة عالم الاجتماع إلى الواقع الاجتماعي. لقد اعتنى الوحي بمسألة الألوهية، ومقتضيات التوحيد، وإثبات الرسالة وضروريتها، وإثبات البعث والحساب والجزاء؛ لأنها حق لا شك فيه؛ ولأنها تشكل " القاعدة الأساسية التي يتوقف عليها ما يبتغيه الإسلام من تغيير في مجال التصور الواقع، وبالتالي الوصول إلى [ ص: 135 ] ما يرتضيه من إصلاح شئون الناس، من حيث أوضاعهم الاجتماعية، والأخلاقية، والاقتصادية والسياسية " [9] .
كما أن الوحي بين كثيرا من ا لأمور التي تتعلق بطبيعة الإنسان وطبيعة التاريخ البشري، وطبيعة النظام الاجتماعي، الذي يستمد منها عالم الاجتماع الأفكار الرئيسة التي يحلل ويفسر على ضوئها الظواهر الاجتماعية.
إضافة إلى أن له " نظرات محددة في أصل الأديان ونشأتها، وتعاقب النبوات، وتتبع تشريعاتها وأحكامها. كما أن فيه مفهوما للأمة، وموقفا نظريا وعلميا من التطور الإنساني، من القبلية إلى التعارف الإنساني، الذي يجمع وينسق بين جميع أنواع الأشكال الاجتماعية " [10] .
تخالف النظريات التي تشيع في علم الاجتماع.
كما أن القرآن حفل بكثير من القصص الذي حكت أحوال كثير من الأمم السابقة. وقد صاحب ذلك الدعوة إلى العظة والاعتبار، مما حل بأولئك الأقوام. وكذلك بيان سنن الله في المجتمعات وفي الأنفس التي لا تتغير. وهذا يفتح بابا واسعا أمام عالم الاجتماع المسلم، لاستخراج السنن الاجتماعية، التي أشار إليها القرآن، ومحاولة تطبيقها، ودراسة المجتمعات الإسلامية على ضوئها. ولعلنا نشير هـنا إلى طرف من هـذه السنن.
لقد دل القرآن ودلت السنة على أن هـلاك الأمم لا يقع إلا بأسباب معقولة وموضوعية. ولقد أشار القرآن صراحة إلى ذلك في قوله تعالى:- ( فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في [ ص: 136 ] الأرض ) ... ( وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ) (هود: 116-117) . وقد بينت آيات أخرى هـذه الأسباب المعقولة، كما اتضحت أيضا في سياق قصص الأمم الهالكة. ومن هـذه الأسباب ما بينته الآيات التالية:
( وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها ) (القصص:58) .
( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها ) (الإسراء:16)
( وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها ) (الأنعام:123) .
" إن الآيات المذكورة أبانت أن تدمير المجتمعات، واندثار حضارتها، وخلاء مساكنها من بعدها، كان بسبب ما ينشأ فيها من بطر واستكبار وطغيان، وبما تتردى فيه من استغراق في الشهوات وإسراف في المتع واللذائذ " [11] .
فقوم نوح، لم يصبهم العذاب إلا بعد أن تأصلت فيهم المفاسد الاعتقادية والاجتماعية، وانتشرت بشكل عام مما يصعب معه الإصلاح، حتى أن نوح عليه السلام دعا عليهم قائلا: ( رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) (نوح: 26) .
وأما " عاد " فلم تهلك غلا حينما اتبعوا سبيل المفسدين الظالمين، وملئوا بلادهم بالظلم. قال تعالى: ( وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد ) (هود: 59) .
وأما قوم لوط فلقد بلغ تنكرهم للأخلاق حدا صاروا يرتكبون فيه [ ص: 137 ] الفواحش علانية في المجالس والأسواق والنوادي، ولم يبق منهم رجل رشيد. قال تعالى: ( أإنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر ) [12] . [العنكبوت:29]