الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الصياغة الإسلامية لعلم الاجتماع (الدواعي والإمكان)

الأستاذ / منصور زويد المطيري

ثانيا : تراث المسـلمـين

لا بد أن نعرف في البداية أن نعرف في البداية أن " التراث في لغة العرب معناه الميراث، وأنه يطلق على وراثة المال والحسب والعقيدة والدين " [1] . فالتراث الإسلامي: هـو ما ورثناه عن آبائنا من عقيدة، وثقافة، وقيم، وآداب، وفنون وصناعات، وسائر المنجزات الأخرى المعنوية والمادية، بل إنه يشتمل على الوحي الإلهي : القرآن والسنة، الذي ورثناه عن أسلافنا. ففي القرآن الكريم : ( يرثني ويرث من آل يعقوب ) (مريم : 26) . قال الراغب الأصفهاني : " فإنه يعني وراثة النبوة والعلم والفضيلة دون المال، فالمال لا قدر له عند الأنبياء حتى يتنافسوا فيه " . وقد أطلق الصحابي الجليل أبو هـريرة رضي الله عنه كلمة الميراث على التراث العقيدي والثقافي، عندما قال لبعض الصاحبة رضي الله عنهم : " أنتم هـنا وميراث محمد يوزع في المسجد.. " [2] . فلم يكن في المسجد سوى حلق الذ كر وتلاوة القرآن. [ ص: 138 ] وقد أوضح لهم أبو هـريرة رضي الله عنه ، أن هـذا هـو ميراث محمد صلى الله عليه وسلم .

ومع أن هـذا هـو معنى التراث في العربية إلا أن استعماله كمصطلح في العصر الحاضر يقود إلى مزالق غاية في الخطورة وذلك حين التعامل معه، فقد ساوى الدارسون في تعاملهم مع التراث بين " ما مصدره الإله الخالق. فالكل يتعرض لعملية النقد والانتقاء والقبول والرفض " [3] .

لقد اختلط الأمر على كثير من الدارسين في هـذا العصر. وذلك لأنهم يعدون الوحي الإلهي، وإجماع الصحابة رضي الله عنهم ، جزءا من التراث الذي يخضع للنقد والاختيار، حيث يحاكمونه كما يحاكمون آراء المسلمين وتصرفاتهم. فهو في نظرهم ليس معصوما، وليس فوق حواجز الأزمنة والأمكنة.

لذلك فإنه لا بد لنا أن نضع حدا فاصلا لهذا الخلط، ولا بد أن نفرق بين الوحي الإلهي، وبين فكر البشر، وجهدهم وتصورهم، حول نصوص الوحي وتفسيره وشرحه.

فالشريعة الإسلامية العامة " لها جانب دستور عبارة عن نصوص قاطعة سواء أكانت في بيان أصول العقائد، أو ما يتصل بأسس تنظيم الحياه البشرية في كلياتها وبعض جزئياتها المهمة " [4] . وهذا الجانب عقيدة ومنهجا هـو ما يتصف بصفة الدوام والاستمرار، " الذي يتجاوز حدود الزمان والمكان وأطروحاتهما الموقوتة، الزائلة، المتغيرة، النسبية، لكي تكون بمثابة استشراف كامل مرن يتسع لكل حالة، ويحتوي كل تجربة بعض النظر [ ص: 139 ] عن موقعها في الزمان والمكان " [5] . ولا يمكن إخضاعه لعملية النقد والاختيار التي يتعرض لها التراث.

وهناك جانب آخر في الشريعة الإسلامية هـو الفقه الإسلامي، الذي يمثل اجتهادات العلماء وأحكامهم وأفهامهم. وهي لا تعد بالضرورة أحكام الله سبحانه وتعالى ، ولذلك فإن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم والمجتهدين الذين جاءوا من بعدهم، كانوا لا يقبلون قول القائل في مسائل الاجتهاد: هـذا حكم الله، بل كانوا يقولون على سبيل المثال: هـذا ما حكم به " أبو بكر " ، وهذا ما قضى به " عمر " ، وذلك ما رآه " علي " رضي الله عنهم أجمعين [6] . وهذا الجانب خاضع لعملية النقد والاختيار كبقية جوانب التراث الأخرى حيث إنه نتيجة للتفاعل مع الوحي.

إن الوحي المتمثل في الكتاب والسنة، هـو الذي يجب رفعه عند التعامل مع التراث " فهو لا يقبل الانتقاء والاختيار منه، أو محاولة تطيعه للواقع، أو التفكير بتوظيفه لتحقيق مصالح خاصة، أو عامة، بل هـو إطار يحكم الحياة، ولكنه يدعها تتطور داخله " [7] . وما عدا الوحي الإلهي، من اجتهادات بشرية منذ أن انقطع الوحي إلى قيام الساعة فهي ليست معصومة ولا مقدسة، وهي ما نقصده بتراث المسلمين هـنا. ولا بد هـنا من كلمة موجزة عن أهمية التراث الإسلامي وغنائه.

الحقيقة أن احترام أي أمة لتاريخها وتراثها، شرط لانطلاقها ونموها. كما أن احترام التراث هـو احترام للنفس والذات، والاستهزاء به استهزاء بالنفس. ولا يمكن لأي أمة تنسلخ من تراثها، أن تحقق أهدافها، [ ص: 140 ] يقول شكيب أرسلان : " لماذا ترى أعظم شباب اليهود رقيا عصريا، يجاهدون في إحياء اللغة العبرية، التي لا يعرف مبدأ تاريخها لتوغلها في القدم، ولا يقال عنهم إنهم رجعيون، ومتأخرون، وقهقريون؟.. كل قوم يعتصمون بدينهم، ومقومات حياتهم، ومشخصات قومهم الموروثة؛ ولا ينبذون بهذه الألقاب إلا المسلمين... جميع هـؤلاء الخلائق تعلموا، وتقدموا، وترقوا، وعلوا، وطاروا في السماء. والمسيحي منهم باق على إنجيله وتقاليده الكنيسة، واليهودي باق على وثنه وأرزه المقدس، وكل حزب فرح بما لديه، وهذا المسلم المسكين يستحيل أن يترقى، إلا إذا رمى بقرآنه وعقيدته، ومآخذه، ومتاركه، ومنازعه، ومشاربه، ولباسه، وفراشه، وطعامه، وشرابه، وآدابه، وطربه " [8] .

ويقول أيضا، وهو في ذلك يرد على أولئك الذين يريدون أن يقطعوا حاضر هـذه الأمة عن ماضيها: " ..إن هـذا الميل في النفس إلى إنكار الإنسان لماضية، واعترافه بأن آباءه كانوا سافلين، وأنه هـو يريد أن يبرأ منهم، لا يصدر إلا عن الفسل الخسيس، الوضيع النفس، أو عن الذي يشعر أنه في قومه دنئ الأصل، فيسعى هـو في إنكار أصل أمته بأسرها؛ لأنه يعلم نفسه منها بمكان خسيس، ليس له نصيب من تلك الأصالة، وهو مخالف لسنن الكون الطبيعية، التي جعلت في كل أمة ميلا طبيعيا للاحتفاظ بمقوماتها ومشخصاتها، من لغة، وعقيدة، وعادة، وطعام، وشراب، وسكنى، وغير ذلك إلا ما ثبت ضرره " [9] .

وعلى هـذا، فلا بد أن يعتز المسلم بتراثه ويفخر به، ويجعله نقطة البداية لنهوضه. حتى الأشكال والطقوس، وطرق التعبير، يجب عدم الاستهانة بها، [ ص: 141 ] بدعوى أن المضمون والمحتوى أهم، " فالتضحية بالشكل كثيرا ما تؤدي إلى التضحية بالمضمون، وتقليد الشكل كثيرا ما ينتهي إلى تقليد المضمون، وتقليد الشكل كثيرا ما ينتهي إلى تقليد المضمون. فالادعاء بأن المهم هـو مضمون العلم، وليس اللغة التي يكتب أو يدرس بها، ادعاء غير صحيح؛ لأن التضحية باللغة القومية في التعبير، يؤدي في النهاية إلى التضحية باللغة القومية في التعبير، يؤدي في النهاية إلى التحية بطريقة كاملة في التفكير، ونظرة عامة للحياة، ويطرح من الأسئلة ما لم يكن ليطرح، ويضيع من القضايا ما كان ليضيع " [10] .

حتى اللباس المميز، وأسلوب المعمار، ووسائل النقل وغيرها، ليست أمورا تافهة، يمكن استعارتها، دون أن يكون لها آثار مضرة، " إن التخلي عن الطقوس ينتهي بالتخلي عن الشخصية الذاتية، ونقل طقوس الأخرين ينتهي بنقل أفكارهم، ويشل القدرة على ابتداع أفكار جديدة " [11] .

لا بد هـنا أمام عظمة هـذا التراث، أن نتساءل: كيف يمكن أن يستفيد علم الاجتماع الإسلامي من التراث؟

أرى أولا : أن أهم أمر يستفيده علم الاجتماع من التراث الإسلامي، هـو تلك الروح التي تميز هـذا التراث عن غيره، فمن المعلوم أنه نتيجة علاقة وتفاعل مع الوحي المتمثل في الكتاب والسنة، مما حدد له الغايات، وأعانه في تحديد الوسائل، يقول الفيلسوف جارودي : " إن ما يميز العلم الإسلامي، مأخوذا بكليته، هـم أنه لا يفصل أبدا بين الاستعمالين [ ص: 142 ] الرئيسين للعقل: البحث عن الأسباب، والبحث عن الغايات، أي الملاحظة والاستقراء، اللذين يسمحان بالانتقال من الوقائع إلى القوانين والنظريات، وبالصعود من غاية إلى غاية، من غاية تابعة إلى غاية أسمى " [12] . ويوضح جارودي كلامه هـذا بقوله في مكان آخر: " وليس صحيحا كذلك أن العلم العربي مجرد تاريخ انتهى، قبل أن يبدأ تاريخ علمنا.. فالعلم العربي، خلافا لتصورنا الوضعي، لا يفصل العلم عن الحكمة، إذ لا يغيب عن ناظريه: المعنى والغاية.. وبما أنه لا يعتبر الشيء مجرد واقعة، بل ينظر إليه على أنه " آية " ، سواء أكان ذلك من ظواهر الطبيعة، أم من كلام الأنبياء، فهو لا يعزل تحليل العلاقات بين الأشياء لاكتشاف قوانينها، عن تركيب علاقاتها بالكل الذي يعطيها معنى.. فكل شيء دنيوي، إذا ما نظرنا إليه من خارج علاقاته بالكل، ومقدس " ديني " حتى أقل ذرة، إذا ما نظرنا إليه من حيث علاقته بالله " [13] .

فلقد كانت كل الأعمال العلمية للسلف الصالح، مع تحريها للحق ومبالغتها في ذلك، تتجه إلى كسب رضى الله سبحانه وتعالى . ومن ثم كان طلب الحق لا غير، هـو الدافع لهم، ليفتشوا، ويبحثوا، بأقصى قدرة يملكونها، وكانوا وقافين عند الحق إذا تبين لهم، وكثيرا ما يتراجعون عن آرائهم واجتهاداتهم إذا تبين لهم، وكثيرا ما يتراجعون عن آرائهم واجتهاداتهم إذا تبين لهم خطاها.

وأورد هـنا مقتطفا من وصية الإمام الفخر الرازي ؛ لأبين كيف كان طلب الحق لا غير، هـو الموجه للسلف الصالح في بحثهم. [ ص: 143 ] يقول أثناء وصيته - ويتوجه بالدعاء إلى الله في ذلك - " أقول: يا إله العالمين، إني أرى الخلق مطبقين على أنك أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، فلك ما مر به قلمي، أو خطر ببالي فاستشهد علمك، وأقول: إن علمت مني أني أردت تحقيق باطل، أو إبطال حق، فافعل بي ما أنا أهله، وإن علمت مني أني ما سعيت إلا في تقرير ما اعتقدت أنه هـو الحق، وتصورت أنه الصدق، فلتكن رحمتك مع قصدي، لا مع حاصلي " [14] .

وقد كان الإخلاص في كسب رضى الله سبحانه وتعالى ، وراء ترفع العلم والعلماء عن خدمة الأغراض والغايات الدنيوية والنفعية، بحيث تقلب الحقائق، ويصور الباطل في صورة الحق.

وهذا ما يخالف الروح الحديثة التي تسير كثيرا من العلماء في كافة المجالات، فقد انصب اهتمام العالم على الفترة العمرية التي يعيشها، ومن هـنا نشأت مفاهيم المنفعة، واللذة، والحسية، والفردية، التي طبعت الحياة الاجتماعية بطابعها، وقد أصبح العلماء على استعداد لتبرير أكثر الأعمال وحشية، والاندماج في خدمة السياسات الظالمة القاهرة. والأمثلة على ذلك كثيرة جدا، ولعل ما كتبه رينيه جاندارم يعبر صراحة عما نقصد. فقد كتب عن العوامل الاقتصادية، والثقافية، التي تقف حجرة عثرة أمام التنمية الاقتصادية ومثل على ذلك بالإسلام في الجزائر. ويقصد من كتابته: " تسويغ الوجود الاستعماري، مؤكدا أن دور الاستعمار يصبح جليلا وشريفا إذا كان غرضه تنمية الإمكانات الاقتصادية، والخيرات التي وفرتها طبيعة هـذا البلد، ولم يتمكن العرب من إدراك أهميتها، ولا من إحكام استغلالها؛ وذلك لأن الإنسان المسلم، كلما اعترضه مشكل من مشاكل الحياة، [ ص: 144 ] أو وجد نفسه أمام عقبة من عقبات الدهر، تراه يتخاذل أمامها، فلا يتصدى لها بالعزيمة الضرورية الكافية؛ لأنه يرى فيها مشيئة الله، فيسلم الأمر إلى الظروف، ويستسلم لأمر الله، وبما أن الأسبقية المطلقة لا يمكن أن تكون إلا لمشيئة الله على مشيئة العبد، فإن الذي لا يستسلم قد يتعارض مع الإدارة الإلهية " [15] .

إن هـذا التنزيف قصد به الكاتب إقناع الناس بأن الاستعمار نعمة ساقها الله إليهم؛ لأنه سبيلهم إلى النمو، وأن الإسلام نقمة عليهم؛ لأنه يقف في وجه تقدمهم ونموهم. ولم يأبه الكاتب أبدا لمعرفة الحق والوقوف عنده. ولكنه كان يمشي خلف أغراضه الدنيوية.

إنه يجب على علماء الاجتماع المسلمين، أن يسلكوا سبيل أسلافهم، ويقتدوا بمنهجهم في طلب الحق، وابتغاء وجه الله، وهذا يتطلب أن يكونوا مثلهم في تسليمهم بعصمة الوحي، وأنه لا يأمر إلا بحق، ولا يمكن أن يخالف الواقع، لأنه صادر عن الله سبحانه وتعالى المحيط بكل شيء.

ومن ناحية أخرى، فإن النظريات والآراء التي طرحها التراث تشكل خلفية تاريخية لها أهمية كبرى عند دراسة معظم الظواهر الاجتماعية. فهو من هـذه الناحية يعد مستودعا للتجارب التاريخية، التي مرت بها الأمة الإسلامية. وهذا يفتح أمام الباحث آفاقا كثيرة للبحث والدراسة، كما أن الكثير من هـذه الآراء والنظريات، لم تفقد أهميتها حتى الآن. وأذكر هـنا [ ص: 145 ] نظريات ابن خلدون ، التي لا يزال كثير منها يتمتع بالمصداقية والواقعية، بل إن فكر ابن خلدون في مجمله أقرب إلى فهم واقعنا، من كثير من النظريات المستوردة، يقول أحد الباحثين: " إن الستة قرون الماضية التي تفصلنا عن ابن خلدون لا تشكل حاجزا بيننا وبين مقدمته.. بل لعلنا لا نبالغ إذا قلنا: إن " المقدمة " تكاد تكون المؤلف العربي الوحيد، الذي نحس عند مطالعته بأنه يتحدث فعلا إلينا، وبأنه فعلا منا وإلينا، وبالتالي نشعر بأنه أكثر معاصرة منا لأنفسنا وواقعنا.. وبعبارة أخرى، أننا عندما نقرأ " المقدمة " نشعر بأننا نقرأ ما لم نكتبه بعد، ونسمع فعلا ما لم نقله بعد " [16] . فقد حوت مقدمة ابن خلدون نظريات قيمة بمنظور العصر الحاصر، فقد ذكر مثلا:

" أن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب، في شعاره، وزيه، ونحلته، وسائر أحواله، وعوائده " .. ويذكر أن السبب في ذلك " أن النفس أبدا تعتقد الكمال في من غلبها... أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي، إنما هـو لكمال الغالب. فإذا غالطت بذلك، واتصل لها حصل اعتقادا، فانتحلت جميع مذاهب الغالب، وتشبهت به،.. أو لما تراه - والله أعلم - من أن غلب الغالب لها، ليس بعصبية، ولا قوة بأس، وإنما هـو بما انتحلته من العوائد والمذاهب " [17] .

إن هـذه النظرية تفسر حالة المجتمعات الإسلامية في هـذا العصر، ويستطيع عالم الاجتماع المسلم أن يطبق هـذه النظرية في كل مجال من مجالات الحياة، وفي جميع المجتمعات الإسلامية تقريبا. [ ص: 146 ]

وذكر ابن خلدون " أن الظلم مؤذن بخراب العمران " ، وذكر " أن التجارة من السلطان مضرة بالرعايا، ومفسدة للجباية " ، كما نبه أيضا إلى " ما يجب مراعاته في أوضاع المدن، وما يحدث إذا غفل عن تلك المراعاة " . وذكر أيضا " أن من عوائق الملك حصول الترف، وانغماس القبيل في النعيم. " ، كما رأى أيضا " أن الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قل أن تستحكم فيها دولة " ، ورأى أيضا " أن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع " ... وغير ذلك من فصول المقدمة.

والحقيقة أن أمام عالم الاجتماع المسلم المعاصر إمكانية عظيمة للزيادة على هـذه النظريات، والبناء عليها، خصوصا مع توسيع علم الاجتماع وتعدد فروعه.

وليس ابن خلدون وحيدا في هـذا المضمار، بل هـناك غيره، نذكر منهم: ابن تيمية ، وهو ألصق من ابن خلدون بالنصوص الشرعية، ونذكر من نظرياته السديدة: نظريته التي دار حولها كتابه " اقتضاء الصراط المستقيم " ، والتي تعني بالأصالة الذاتية للمجتمع الإسلامي، وأنه لا بد أن يتميز عن غيره، ويترفع عن تقليد المجتمعات الأخرى.

يقول ابن تيميه : " ثم إن الصراط المستقيم، هـو أمور: باطنة في القلب: من اعتقادات، وإرادات، وغير ذلك، وأمور ظاهرة: من أقوال، وأفعال، قد تكون عبادات، وقد تكون أيضا عادات: في الطعام، واللباس، والنكاح، والمسكن، والاجتماع، والافتراق، والسفر، والإقامة، والركوب، وغير ذلك. وهذه الأمور الباطنة والظاهرة، بينها - ولا بد - ارتباط ومناسبة. فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال، يوجب أمورا ظاهرة.. وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال، يوجب للقلب شعورا وأحوالا. [ ص: 147 ] وقد بعث الله عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ، بالحكمة التي هـي سنته، وهي الشرعة والمنهاج الذي شرعه له.

فكان من هـذه الحكمة: أن شرع له من الأعمال والأقوال ما يباين سبيل المغضوب عليهم، والضالين، وأمر بمخالفتهم في الهدي الظاهر، وإن لم يظهر لكثير من الخلق في ذلك مفسدة " [18] .

وقد أشار ابن تيمية بعد ذلك إلى أسباب الدعوة إلى التميز والاختلاف فذكر الأمور التالية:

" منها: أن المشاركة في الهدي الظاهر، تورث تناسبا وتشكيلا بين المتشابهين، يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس. فإن اللابس لثياب أهل العلم - مثلا - يجد من نفسه نوع انضمام إليهم، واللابس لثياب الجند المقاتلة مثلا، يجد في نفسه نوع تخلق بأخلاقهم " .. ومنها: أن المخالفة في الهدي الظاهر، توجب مباينة ومفارقة، توجب الانقطاع عن موجبات الغضب، وأسباب الضلال، والانعطاف إلى أهل الهدي والرضوان.

ومنها: أن مشاركتهم في الهدي الظاهر، توجب الاختلاط الظاهر، حتى يرتفع التمييز ظاهرا بين المهديين المرضيين، وبين المغضوب عليهم والضالين " [19] ) .

ومن الممكن جدا النظر إلى المجتمع الإسلامي في العصر الحاضر نظرة نقدية على ضوء هـذه النظرية، فإن من الواضح أنه بدأ يفقد هـويته المميز [ ص: 148 ] له، ويميل إلى اقتباس كثير من عادات المجتمعات الأخرى، وخاصة مجتمعات أوربا الغربية.

وإضافة إلى ذلك، فإن المعلومات القيمة التي يحويها التراث لا يمكن الاستغناء عنها، سواء كانت معلومات تشريعية، تتعلق بالاجتهاد في الشريعة الإسلامية، أو معلومات تتعلق بوصف الشعوب وعاداتهم وتقاليدهم كالمعلومات التي قدمها الحالة كابن فضلان ، وابن جبير ، وابن بطوطه ، وابن حوقل ، والبيروني ، وغيرهم، فهي تعطينا صورة صادقة لحالة المجتمعات في ذلك الوقت. وقد قدم السلف الصالح أفهاما ثاقبة لأحكام الشرع الإسلامي ومقاصده، تشكل نقطة انطلاق لعالم الاجتماع المعاصر.

وأخيرا، هـناك قضايا يجب التنبيه إليها، عند التعامل مع التراث، وأول هـذه القضايا: هـي قضية الاستفادة من المعلومات المبثوثة في كتب التراث. فعالم الاجتماع الحديث غير المدرب، يجد صعوبة بالغة عند تعامله معه، " ذلك أن مصنفات العلم الحديث، لا توجد ولا حتى أسماؤها في التراث على هـذا النحو، كذلك فإن التراث قد يحتوي على معلومات قيمة، لا يمكن تصنيفها طبقا؛ لأن تصنيف جديد، ولا ربطها به.. إن العالم المسلم الذي تدرب في الغرب، كثيرا ما ينهزم أمام استغلاق التراث عليه، الأمر الذي دفعه بقوة إلى الإعراض واليأس، والحكم بأن ليس في التراث شيء، حول موضوع البحث، مع أن الحقيقة أنه هـو الذي لا خبرة له بتصنيفات التراث، التي تندرج تحتها مثل تلك المادة الملائمة لموضوعه. [20] . [ ص: 149 ]

لذلك فإن الكشف عما يتعلق بعلم الاجتماع في التراث، يعد ضرورة يجب على القادرين القيام بها، بحيث تجمع هـذه المعلومات في موسوعة واحدة أو أكثر حتى يسهل الوصول إليها.

والقضية الثانية هـي: أن المقصود من استلهام التراث، لا يعني أن نبحث عن إجابة عصرية في التراث، فنتساءل مثلا: هـل قال ابن خلدون بمبدأ جبرية الظواهر الاجتماعية - كما هـو رأي دوركايم - أم لا؟ فإذا وجدنا ابن خلدون قال ذلك، حكمنا بصلاحية التراث، وكفاءته، وإن لم يقل ذلك، حكمنا بأن لا فائدة من التراث. وأنه عاجز عن مسايرة العصر. إن مثل هـذا الموقف مع أنه يخطئ فهم الصياغة الإسلامية، فإنه من جهة أخرى ينتهي بالتقليد العقيم، والاستسلام للنظريات الغربية السائدة.

والمقصود من استلهام التراث، هـو الالتزام بمقوماته، ومسلماته، وما يتعامل معه التراث كبدهيات، والكشف عما لا يزال من ذلك حيا في حياتنا المعاصرة ونمط تفكيرنا [21] .

وثالث هـذه القضايا هـي: التأكيد على الالتصاق الوثيق بين التراث، وبين الإسلام، ولغته العربية، " وأية محاولة لتصوير تراثنا على أنه مجموع ممارسات " علمانية " لا علاقة لها بالإسلام، أو حشد من الخبرات، وأن التجارب الإسلامية لا علاقة لها بالعروبة، وتسعى للفصل بين الاثنين، إنما هـي محاولة انفعالية غير علمية، جزئية غير كلية، موقوتة غير دائمة، وطارئة غير أصلية " [22] . فالحديث عن تراث قومي، وعن مراحل فرعونية، أو فينيقية، أو بابلية، ونحو ذلك، خدعة كاذبة، فتراثنا الحي إسلامي الهوية، عربي اللغة، " وكل ما سبقه فهو مما وقع عليه سيف [ ص: 150 ] الانقطاع الحضاري، فتوقف لأن لغته ماتت، ولم يعد له وجود حقيقي " [23] .

ومن ناحية أخرى، فإن النظر إلى التراث بمنظار الأيديولوجيات المعاصرة هـو خطأ أيضا لا يقل عن سابقه ضلالا، فمثلا أن نجعل ابن خلدون يميل إلى النظرة المادية [24] ، أو ننتقده لإخلاله بشروط البحث العلمي، وذلك لإيمانه بما يخالف الحس الواقع، حيث يقول أحد الباحثين: " ولا شك أنه يحق لنا أن ننتقد ابن خلدون على ذكره الشيطان والشياطين، في عدة مجالات من مقدمته، وعلى بحثه عن السحر، بشيء من التفاصيل، في بعض الفصول من هـذه المقدمة " [25] ، هـو أمر يجب أن نحذره؛ لأنه ينقل صورة خاطئة لتراث المسلمين.

التالي السابق


الخدمات العلمية