لقد سبق وأن أكدنا، أن المقصود بالعقل، هـو الكيفية في الأداء والنشاط، الذي يبذله الفكر الإنساني، نتيجة ما يتوفر له من معارف، ومعلومات، ونتيجة ما يتكون فيه من مبادىء، وقواعد، تشكل في مجموعها المنظومة العقلية للفرد. وخلال السياق السابق، تم التأكيد على أن بنية العقل، وهيئته لا تأتي من فراغ، بل هـي متأثرة سلبا، وإيجابا، بما يحيط بها من مؤثرات ومشكلات ثقافية وحضارية، فإذا كانت هـذه المؤثرات والعناصر الحضارية والثقافية غنية، وجيدة، فسيكون المردود الارتفاع بمستوى العقل، وجعله على مستوى الأحداث والتحديات أما إن كانت العناصر والمؤثرات الحضارية، فقيرة، ورديئة، فحتما ستكون النتيجة، انحطاط مستوى العقل وضياعه.
العقل العربي كغيره من العقول البشرية، يصدق عليه ما يصدق عليها فهو يتأثر بما يحيط به، من ثقافة، وحضارة، سواء على المستوى المحلي، أو المستوى العالمي، ولكي نتعرف على واقع العقل العربي قبل الإسلام، يتطلب الأمر، أن نحلل، ونشرح، الفترة التاريخية تلك، لنرى ما أهم ميزاتها الثقافية والحضارية، ولكي نقف على أبرز ملامحها، وقنوات الثقافة السائدة، والموجودة في تلك الفترة. ماذا نعني بالعقل العربي؟
يفرق لالاند Lalande بين نوعين من العقل، الأول هـو العقل الفاعل أو المكون، ويعني به: النشاط الذهني، الذي يمارسه الإنسان، [ ص: 67 ] وهذا النوع من العقل، يتوفر لكل بني آدم، عدا الحالات الشاذة، أو حالات التخلف العقلي. أما النوع الثاني، فهو العقل السائد، وهو يعني مجموعة القواعد والمبادئ، التي تقدمها الثقافة العربية، للمنتمين إليها، كأساس لاكتساب المعرفة، أو هـو باختصار: النظام المعرفي [1] .
لكي تتم عملية التشخيص بشكل موضوعي، يحتاج الأمر تحديد معالم الثقافة العربية، التي أسهمت في تشكيل، وتكوين العقل العربي.
إن واقع الإنسان العربي، لا يمكن فصله عن واقع بلاده الجزيرة العربية في ذلك الوقت، فأهم ما يميزها أنها صحراء قاحلة، نادرة الماء شديدة الحرارة في صيفها، وباردة في الشتاء، يقطنها العرب، وهم في حركة دائبة وراء الماء والكلأ. ارتباطاتهم العالمية محدودة، بحكم انعدام وسائل المواصلات، والاتصالات الحديثة. الجمل والخيل، هـو أساس حركة المواصلات، والغنم من أساسيات الثروة الحيوانية، بل الثروة العامة. التجارة أسلوب حياتي، ولكن ليس لكل الناس ( لإيلاف قريش * إيلافهم رحلة الشتاء والصيف ) ( قريش:1،2 ) .
إذا كان هـذا هـو الواقع البيئي، المحيط بالإنسان العربي، كيف هـو واقعه العقائدي. لقد ذكر القرآن حال العرب العقائدي قبل الإسلام، حيث إن الجزيرة العربية، كانت تعج بالأصنام، والأوثان، التي تعبد، ويتقرب من خلالها إلى الله ( ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها [ ص: 68 ] أنتم وآباؤكم ) ( يوسف : 40 ) ، ( قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين ) (الشعراء: 71 ) .
وإذا كان عرب الجاهلية يؤمنون بوجود الله، فإنهم يبررون عبادتهم للأصنام والأوثان، من أجل تقريبهم من الله، ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) (الزمر:3) . إذن الانحراف العقائدي متأصل في عرب الجاهلية قبل الإسلام، وهو بلا شك قد أثر على سلوكهم، وتصرفاتهم، وبنائهم العقلي، في نظرتهم للحياة، وفي علاقاتهم بعضهم بعضا، ومع الآخرين.
الانتماء عند العربي في تلك الحقبة التاريخية، كان قائما على الانتماء للقبيلة والعشيرة، القبلية في نسبها، في مرعاها، في موقعها، وفي مصالحها، وعلاقاتها مع غيرها.
لقد وجدت في الجزيرة العربية، وفيما حولها، قبائل عربية كثيرة، منها قريش ، الخزرج ، الأوس ، تميم قحطان .. إلخ. ومن هـذا الانتماء القبلي، تشكل الانتماء المحدود بحدود هـذه القبيلة، ولا غير، ومنه تحدث النشوة والافتخار.
إذا بلغ الفطام لنا صبي تخر له الجبابر ساجدينا وإنا نورد الرايات بيضا
ونصدرهن حمرا قد روينا
نريد بني الحيفان إن دماءهم شفاء وما وإلى زبيد وجمعا [2] .
لا يمكن أن يفصل بين الإنسان العربي، في تكوينه العقلي، وبين لغته. من الإنصات الواعي والمتدبر، إلى هـذه اللغة العربية (الفصحى) ، التي هـي لغة الإنسان، الحر، المبين عن الصدق، وعن الحق، بما في كلماته وحيوية عباراته، وإيقاع صوته، يبدأ التعرف على من هـو (العربي) [3] .
لقد تجسدت حيوية اللغة العربية، في نتاج الإنسان العربي الفكري، فيما قبل الإسلام، تجسدت في الشعر، والأدب، والقصص، وفي الأمثال، والحكم، فوجدت لأجل ذلك، بعض المراكز، والمنتديات الثقافية، كما في سوق عكاظ ، والمجنة ، والمربد ، حيث يلتقي الشعراء، ويتحاورون ويتداولون الشعر، على أن ذلك لا يعني أن [ ص: 70 ] المناخ الاجتماعي العام هـو مناخ ثقافي، ثري، ( فبدون سابقة، ولا تمهيد، نلتقي فجأة بفترة المعلقات وغيرها، من الشعر الفطري في مضمونه، بينما هـو من حيث الشكل في غاية الأناقة، وفي لغة، هـي منذ البداية تفوق في بدائعها أكثر أنواع الكلام عمقا، وثقافة، وبألوان الحصافة في النقد الأدبي وفي البيان، شبيهة بما تجده في أشد عصور الإنسانية إعمالا للفكر) [4] .
ذلك الواقع الذي عاشه الإنسان العربي، في تلك الفترة عقائديا، اقتصاديا، بيئيا، اجتماعيا، وثقافيا، كان له دور بارز وحاسم في تشكيل عقل الفرد، بصورة متناسبة طرديا مع ذلك الواقع
ترى ما أهم صفات وملامح العقل العربي في تلك الفترة؟! من الناحية السياسية، يمكن أن يقال: إن عقلية التشرذم ، والفرقة، هـي السائدة، إذ لم يكن يوجد كيان سياسي موحد، بل إن كل قبيلة وعشيرة تفرض سيادتها على أرضها، وأفرادها، وكذا الضعفاء من القبائل الأخرى. وإذا حدث ووجد فكر وحس وحدوي، فهو محصور في دائرة ضيقة جدا، ألا وهي دائرة القبيلة، أو العشيرة، حيث من خلال هـذا الانتماء يكتسب الفرد قوته، ويمارس سلطته ونشاطه، ويبرز كفاءته القتالية، ويعبر عن بلاغته وبيانه وشعره، ومن خلال هـذا الانتماء المحدود، حدثت داحس والغبراء ، وتقابـل العرب على الماء والمرعى، وعلى أبسط الأمور سفكت الدماء، وتكرس التشرذم والتفكك. [ ص: 71 ]
ونحن أناس لا توسط بيننا لنا الصدر دون العالمين أو القبر
هذا كان واقع الحال في العقل السياسي العربي، ومنه استمد الإنسان العربي بعض الشمائل والخصائص، الحسنة والسيئة، فلقد وجدت خصال جيدة، من مثل الكرم، الشجاعة، روح الفداء، الإقدام، النخوة، حماية الجار، الغيرة على المحارم، الصبر، وتجشم الصعوبات بالإضافة إلى خصال سيئة، كالصراع، والتنافس وضيق الأفق المحدود بحدود القبيلة والعشيرة
يدعون عنترة والرماح كأنها أشطان بئر في لبان الأدهم
وقال شاعر آخر:
فمن يأتينا أو يعترض بسبيلنا يجد أثرا دعسا وسخلا موضعا
الواقع البيئي والاجتماعي، الذي عاشه الإنسان العربي، كرس مجموعة من المبادئ والمثل، التي وجهت تفكير وسلوك فرد تلك الحقبة، وبما يتناسب مع معطياتها وظروفها.
فواحدة أن لا أبيت بغرة إذا ما سوام الحي حولي تضوعا
وثانية أن لا أصمت كلبنا إذا نزل الأضياف حرصا لنودعا
وثالثة أن لا تفزع جارتي إذا كان جار القوم فيهم مفزعـا
ورابعة أن لا أحجل قدرنا على لحمها حين الشتاء لنشبعا [5] .
الواقع العقائدي في تلك الفترة والمتمثل في انتشار الأصنام والأوثان. [ ص: 72 ] ترك أثره في بنية التفكير، المتمثل في التبعية والاقتداء بالغير، حتى ولو كان على ضلال، ودونما محاولة لأعمال العقل، من أجل معرفة الحقيقة. فما اعتاد عليه الأباء والأجداد، يعتبر أمرا مقدسا، لا يمكن التفريط به، ولا يمكن السماح لأي كائن ومن كان، أن يمسه ويتعرض له ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون ) (الزخرف: 23) ،
( أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ) (هود :62 ) .
إن المباهاة والكبرياء، القائمة على الانتماء العرقي، والواقع الاقتصادي، تمثل خصلة من الخصال المتجسدة في ذات الإنسان العربي، فهو نفسه من خلال قبيلته، ونفوذها، ومركزها، ومن خلال مستواه الاقتصادي، والمعاشي، ولذا كانت النظرة، والتقويم لمن آمن، وأسلم مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، في بداية الأمر، قائمة على أساس أنهم من ضعاف القوم، وأدناهم منزلة، ولذا كانوا يكررون عبارة إنما اتبعه ضعاف القوم.
باختصار يمكن القول: إن المنظومة المعرفية والثقافية والمتوفرة للإنسان العربي، في ذلك الوقت، كانت بحدود البيئة، المجتمع، القبيلة، ندرة الموارد، تفشي الأمية، وسيادة التعبير الشفهي، وافتقاد التدوين، وكل هـذه العناصر مجتمعة، أوجدت قواعد ومبادئ التفكير، والمستوى العقلي، والذي لم يكن له ليبدع خارج إطار الشعر، والقصص، والأساطير، والأمثال والحكم، بالإضافة إلى سجايا السلوك العام، المعبر عن الانتماء، والكرم، والشجاعة.
بافتقاد الإطار المرجعي، المتضمن لأيديولوجيا متكاملة شاملة لكل [ ص: 73 ] مناحي الحياة السياسية، والاقتصادية، الأسرية، الفكرية، والاعتقادية، بالإضافة إلى معرفة أبستمولوجية مستمدة من الواقع والمتغيرات الحياتية، وجد العقل العربي بالصورة التي أشرنا إليها، دون أن يكون له أثر ملموس في واقع حياته، ودون أن يكون له تأثير على الأمم من حوله.
وقد وصف الجاحظ العقل العربي بقوله: ( وكل شيء عند العرب فإنما هـو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليس هـناك معاناة ولا مكابدة، ولا إجالة فكر، ولا استعانة، وإنما هـو أن يصرف وهمه إلى الكلام وإلى رجز يوم الخصام، أو حين يمتح على رأس بئر، أو يحدو ببعير، أو عند المقارعة أو المناقلة، أو عند صراع أو في حرب، فما هـو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب، وإلى العمود الذي يقصد، فتأتيه المعاني أرسالا وتنثال الألفاظ انتثالا.. وليس هـم كمن حفظ علم غيره، واحتذى على كلام من كان قبله، لم يحفظوا إلا ماعلق بقلوبهم، والتحم بصدورهم، واتصل بعقولهـم، من غير تكلف، ولا قصد، ولا تحفظ، ولا طلب ) [6] ..
ويورد الجابري قولا للشهر ستاني يصف فيه العقل العربي بقوله: إن العرب والهنود أكثر ميلهم إلى تقرير خواص الأشياء، والحكم بأحكام الماهيات والحقائق، واستعمال الأمور الروحانية، أما العجم ( الروم والفرس ) فأكثر ميلهم إلى تقرير طبائـع الأشياء، والحكم بأحكام الكيفيات والكميات، واستعمال الأمور الجسمانية [7] . [ ص: 74 ] ويعلق الجابري على هـذه العبارة بقوله: تقرير خواص الأشياء معناه التعامل مع الشيء، من خلال صفاته، وخصائصه المميزة له، عن غيره،لا من خلال طبيعته، أي ما يشكل قوامه الداخلي. ويضيف فيقول: إن كلمة طبائع، تعني في المصطلح القديم نظام السببية الثابت، والتركيب الماهوي للشي [8] .
باختصار: إن العقل العربي قبل الإسلام عاش مفتقدا الأسس التي تكسبه قوة البناء، والمثيرات التي تحدث فيه الإثارة الضرورية، والخبرة التي تصقله، وتجعله على مستوى التحديات المحيطة به، لم يكن العقل العربي بذلك العمق، ولا بذلك التعقيد، بل كان أقرب ما يكون إلى البساطة والسذاجة والسطحية، وهذا الوصف، يجب ألا يلغي، وينسخ بعض الخصائص، التي أقرها الإسلام واستبقاها كجزء من النظام الجديد. [ ص: 75 ]