العقل العربي:
نظرة تحليلية على الصعيد العالمي
عند الحديث عن تحليل العقل العربي على الصعيد العالمي، يلزم الإشارة إلى أن عملية التحليل هـذه لن تقوم على مقياس من مقاييس الذكاء، أو القدرات العقلية، مثل اختيار وكسلر للذكاء، أو اختيار استانفرد - بينه للذكاء، وغيرها من الاختبارات، التي اعتاد علماء النفس على استخدامها، من أجل تحديد مستويات الذكاء بشكل عام، أو تحديد نوع القدرات، ومستوياتها لدى فرد، أو مجموعة من الأفراد.
إن عملية التحليل هـذه، ستكون من خلال الأداء العام للعقل العربي، من حيث نشاطه وفعاليته، ودوره في تكوين، وصياغة الحضارة العالمية الراهنة، وتأثيره،عليها وعلى مجرياتها. فعالية عقل الأمة، بالإمكان أن تكون آثارها ومعالمها واضحة، من خلال سيادة لغة الأمة، وانتشارها، وهيمنتها، على كل مرافق وأنشطة الحياة. فعالية عقل الأمة، تكون واضحة من خلال التأثير على الأنظمة، واللوائح، والقواعد، والأصول المعمول بها، في المنظمات والهيئات الدولية، وفي العلاقات العالمية. فعالية الأمة من خلال بناء الأخلاق والمبادئ وسيادتها، وتأثيرها على سلوك أفراد الأمة، وتعاملهم مع بعضهم بعضا. فعالية العقل، تكون من خلال الإبداع، والابتكار تقنينا. وفعالية العقل، تكون من خلال نشاط ثقافي، وأدبي، واضح [ ص: 91 ] وملموس، وأخيرا، يمكن القول: إن فعالية العقل، تكون من خلال وضع لمسات مميزة، على النظام والمشروع العالمي. من خلال هـذه الملامح التي ذكرناها، يمكن الحكم على فعالية العقل العربي، وذلك عند تقييمه، أو مقارنته بغيره من العقول البشرية أو الأممية.
ما يجب تأكيده في هـذا المقام، هـو أن الحكم على العقل العربي، لن يكون من خلال الحكم على فرد بعينه، أو أبناء بلد بعينه، ولكن من خلال الأداء العام، لمجموع الأمة، في كل قطر وفي كل مكان.
أسئلة كثيرة، قد تكون عونا في توجيه القارئ إزاء هـذه القضية. هـل الأمة في مجموعها لها ما يميزها عن غيرها في الأخلاق، والسلوك، وفي المظهر العام؟. هـل الأمة في مجموعها لديها الثقة في ذاتها، وفي حضارتها وثقافتها؟ هـل الأمة تعمل بشكل جيد، في مختلف الأنشطة الحياتية؟ هـل الأمة قادرة، على أن تكون ندا لغيرها، في الإنتاج والعمران؟ هـل الأمة تتصرف من موقع الشعور بالمسئولية العالمية المنوطة بها؟ وهل الأمة تتعامل مع غيرها بكل عزة وإباء وشمم ؟.
للإجابة على هـذه الأسئلة يلزم الإشارة إلى أن عقل النخبة في الأمة سيكون هـو المدخل الطبيعي لمعرفة واقع العقل العربي، بشكل عام، وذلك لأن عقل النخبة، يناط به في الغالب، أو يعطي الحق، في توجيه الأمة سياسيا، وثقافيا، وحضاريا، عقل النخبة يتمثل في رجال السياسة، رجال الإعلام المقروء، والمسموع منه، والمرئي، رجال الفكر، والثقافة، ورجال التربية. من خلال هـؤلاء جميعا، وما يقدمونه عبر القنوات المختلفة، تتم صياغة العقل العام، ويتم توجيهه وفق توجهات ومصالح معينة. بالقدر الذي يتمتع به هـؤلاء، من حرص، [ ص: 92 ] وإخلاص، ونزاهة، وفطنة، وبعد نظر يكون العقل العام، ويتشكل. وإذا حدث خلاف ذلك، سيكون شكل العقل، ذا طابع سلبي، وباتجاه عكسي، لما تتطلبه المرحلة وتستوجبه المسئولية.
النفس الإنسانية بشكل عام، يغلب عليها طابع التقليد، والإقتداء، ولا سيما إذا كان المقتدى به، ذا مكانة وشأن، في مجتمعه، أو ذا قوة ونفوذ، كأن تكون دولة من الدول، لها مثل هـذا الشيء، على الصعيد العالمي، فتكون بذلك قدوة ومثالا يحتذى من قبل الدول الأخرى. وعلى هـذا الأساس نجد أن الضعيف يقلد القوي، والصغير يحتذي حذو الكبير، والمغلوب ينقاد وراء الغالب. العرب لا يمكن استثناؤهم من هـذه القاعدة كبشر، إلا أنه يمكن تجاوز هـذه القاعدة عند توفر المنهج السليم، في التربية، والتنشئة، والإعداد والتثقيف.
(ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبدا بالغالب، في ملبسه، ومركبه، وسلاحه، في اتخاذها وأشكالها، بل وفي سائر أحواله، وانظر في ذلك، الأبناء مع آبائهم، كيف تجدهم متشبهين بهم دائما، وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم، وانظر إلى كل قطر من الأقطار، كيف يغلب على أهله زي الحامية، وجند السلطان، في الأكثر، لأنهم الغالبون لهم، حتى إنه إذا كانت أمة، تجاور أخرى، ولها الغلب عليها، فيسري إليهم من هـذا التشبه والاقتداء حظ كبير) [1] .
ومع تراكم الهزائم على العرب، في العصر الحديث، بدءا بتقسيم العالم العربي، بين الدول الاستعمارية، وانتهاء باحتلال فلسطين ، ومن [ ص: 93 ] ثم اغتصابها من قبل اليهود ، بالإضافة إلى النكسات الاقتصادية، والسياسية ، التي مني بها العالم العربي، كل هـذه الأمور جعلت الإنسان العربي، مهيئا نفسيا للتشرذم، والتحطم، والشعور بالدونية، والتخلف، ومن ثم الانقياد خلف قوى الاستعمار، التي جثمت على بلاده لفترة من الزمن، ليست بالقصيرة.
نتيجة لهذا الوضع، وجد مناخ يمكن من خلاله أن يكون الإنسان العربي هـدفا، تتم صياغة عقله وفكره، بما يخدم أهداف أعدائه، ممثلين بقوى الاستعمار والاحتكار. وقد وجدت أساليب متعددة لتحقيق هـذا الهدف، والأول يتمثل في إيجاد جيش من المستشرقين، هـيئت له كل الظروف والإمكانيات، التي تساعد أفراده على أن يجوب العالم العربي، ويقتضي آثاره، ونفائسه، ويدرس، ويحلل شعوبه، وتقاليده. وليت هـذه الدراسة والتحليل، تكون موضوعية، وتجلية للحقيقة، بل إن المستشرقين، يدسون السم في العسل، كما يقال، من خلال بث الأفكار الغربية، وتشويه الأحداث، وتعسف النصوص، بهدف زعزعة الثقة لدى الإنسان العربي، في مقوماته الحضارية، والثقافية، وقد أثمرت هـذه الجهود في إيجاد أفراد متخصصين في كل أجزاء العالم العربي، من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه، يجوبون الصحارى، وينزلون الأودية، ويتسلقون أعالي الجبال، بهدف أن يكون منطلق معرفة، تخدم أهدافهم التي حددوها من قبل. كما أن الجهود أثمرت عن إيجاد المؤتمرات المتخصصة، التي تعالج، وتناقش كل ما تمكن المستشرقون من سرقته، من كنوز وآثار، ووثائق، وكتب ثمينة. [ ص: 94 ]
ومع الجهل المطبق، الذي كان يمر به العالم العربي بالإضافة إلى الاستعمار، الذي أحكم قبضته، تفنن المستشرقون في تزييف، وتشويه الحقائق، بل واختلاق معرفة جديدة، وبعيدة كل البعد عن الواقع، والموضوعية، بغرض خدمة الأحكام والأهداف، التي حدودها هـم ودولهم مسبقا، وبذلك أصبحت كتب المستشرقين، ومقالاتهم، وتحقيقاتهم، مرجعا أساسيا، يعود إليه المثقفون العرب، بل ويعتمدون عليه كل الاعتماد، لاعتقادهم بموضوعية، ونزاهة هـؤلاء المستشرقين.
وللبرهنة على الدور الذي لعبه الاستشراق والمستشرقون في العالم العربي، والعالم الإسلامي، يكفي أن نشير إلى بعض النتائج، التي توصل إليها إدوارد سعيد ، في كتابه الاستشراق، حيث يقول: إن الاستشراق كان في نهاية المطاف رؤية سياسية للواقع، رؤية روجت بنيتها للفرق بين المألوف: (أوروبا، الغرب) ، وبين الغريب، (الشرق، المشرق) . وبمعنى آخر فقد طرحت هـذه الرؤية أولا، ثم خدمت.. [2] حول منهج المستشرقين يقول: وندر أن كان المستشرقون على اهتمام بشيء سوى البرهان على سلامة هـذه (الحقائق ) البالية، والتي كانوا يعتقدونها مسبقا [3] .
وحول العلاقة الوثيقة بين الاستشراق، وحكومات الاستعمار، يقول: فإن الاستشراق يمكن أن يناقش، ويحلل بوصفه المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق بإصدار تحليلات حوله، وإجازة الآراء [ ص: 95 ] فيه، وإقرارها بوصفه وتدريسه، والاستقرار فيه، وحكمه [4] .
وإذا كانت صياغة العقل وتشكيله، تتم من خلال قنوات، وعبر أساليب مختلفة، كما سبقت الإشارة، فقد أثمرت الجهود الاستشراقية، في إيجاد، مؤسسات، وأفراد يخدمون الفكر الاستشراقي، في العالم العربي، مما أنتج في النهاية عقلا تابعا، يفتقد الاستقلال والرؤية المتميزة، (يمكن اعتبار التلاؤم المتبادل بين الطبقة المفكرة، والإمبريالية الجديدة ، أحد الانتصارات الخاصة للاستشراق ، فالعالم العربي اليوم كوكب، تابع فكريا، وسياسيا، وثقافيا، للولايات المتحدة..) [5] .
يضاف إلى الجهد الاستشراقي، جهود مجموعة النخبة في العالم العربي، والتي أشرنا إلى أنها تمثل الساسة والمفكرين والمثقفين العرب، والذين وقعوا في الشرك الذي نصب لهم، إما خدمة لمصالح ذاتية وأسرية، أو حزبية بحتة أو لغفلة وجهالة. وقد بدأت جهود هـذه النخبة مع بداية البعثات العلمية، لبعض الطلاب العرب إلى أوروبا، كفرنسا ، وبريطانيا ، وأخيرا الولايات المتحدة الأمريكية. حيث نتج عن هـذه البعثات، عودة مجموعة من الطلاب، وهم يحملون الكثير من الأفكار، والآراء الغربية، والتي درسوها، وتشبثوا بها في مدارس الغرب وجامعاته. وبعد عودة هـؤلاء أخذوا على عاتقهم عملية نشر هـذه الأفكار، والآراء بين أوساط المثقفين العرب، وأصبحت تؤلف فيها الكتب، وتحتل أعمدة الصحف والمجلات، مما جعلها تحتل الساحة [ ص: 96 ] الثقافية، والفكرية في العالم العربي. وترتب على هـذا الوضع، أن أصبح لا يمكن اعتبار الفرد مثقفا، إلا إذا تشبع، وتنور، بهذه الأفكار، والآراء الوافدة.
لقد توغل هـؤلاء الأفراد في المؤسسات العلمية، والثقافية، والإعلامية، وأصبحوا يوجهون الثقافة، والرأي العام، بما يتناسب مع معطياتهم الفكرية، والثقافية، التي اكتسبوها في الغرب. بعض النخب الحاكمة في العالم العربي، سواء كانت حزبية، عسكرية، أو عائلية، أسهمت بدورها في تجهيل الإنسان العربي، وتشكيل عقله، بما يتناسب ويخدم مصالحها، وذلك من خلال إمداده بالمعلومات المشوهة، حول عقيدته، ومن خلال عمليات غسل المخ المستمرة، والمكثفة، والتي استهدفت العقيدة، والمبادئ، والقيم، والمثل، واللغة، والأخلاق والسلوك.
لقد عبر جمال سلطان عن الوضع الذي آل إليه العقل العربي كنتيجة لجهود النخبة في العالم العربي بقوله: إن حركة التنوير العلماني - بعد مجهودات أكثر من نصف قرن - كان جل ما حققته في المجتمع العربي أن شطرت عقله قسمين دونما قدرة على توجيه العقل إلى معاركه المصيرية، ضد قوى الشر والاستكبار، التي كانت تحيط به من كل جانب، ودونما قدرة على تحقيق دفع علمي حضاري، ملموس، يغفر لها هـذا التخريب في عقل الأمة، والفتنة في صفوف نخبتها المثقفة [6] . [ ص: 97 ]
ويعزو جمال سلطان السبب إلى الانطلاقة، حيث إن حركة التنوير العلمانية ، انطلقت من وضعية الانبهار الحاد بأوروبا، فانكبت هـذه النخبة، على دراسة التجربة الأوروبية، ليس من خلال التقنية، بالعالم العقلي لدى هـذه النخبة، وهذا بالطبع على حساب الإسلام، وعالمه الثقافي، والعالم العربي الإسلامي، في واقعه وحاضره وماضيه، مما أوصل هـذه النخبة إلى حالة الاغتراب، مما جعل أوروبا في عقولهم على أساس أنها المثل الكامل، الذي يجب احتذاءه، والسير خلفه، فكمال أي فكرة، أو نقصها يكون من خلال بعدها، أو قربها من التجربة الأوروبية [7] .
ماذا نتج عن هـذه الجهود المكثفة والمتعددة القنوات؟ للإجابة على هـذا السؤال، يلزم تحليل العقل العربي كما يبدو من ممارساته، ونشاطه على الصعيد الدولي، في مجالات متعددة أكاديمية، لغوية، أيديولوجية ، سياسية، وفكرية.
على الصعيد العقائدي الأيديولوجي، نجد أن العقل العربي، تأثر كثيرا بهذه الجهود، التي وجهت للتشكيك بعقيدته، ورسالته الإسلامية، حتى أصبح من المثقفين العرب من يردد، ما يردده المستشرقون، من شبهات حول القرآن والحديث النبوي، وشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم .
ويصور أحمد غراب هـذه الجهود بقوله: فهي تجنح دائما إلى الحط من قدر الإسلام، وتشويه صورته، وإصدار أحكام، وتعميمات [ ص: 98 ] تحقيرية عنه، بهدف تنصير المسلمين، ومحاولة ردتهم عنه، وذلك والتنظيم والإدارة والمناهج العلمية، بل من خلال المناخ الثقافي، وجذوره التاريخية، مما ترتب عليه استبدال العالم العقلي الأوروبي بوسائل عديدة منها:الدعوة إلى تطوير الإسلام، وإلى التغريب والحداثة، وإلى العلمانية ، والقومية ، وإلى الحوار بين الحضارات، والتقارب بين الأديان [8] .
والمستعرض لواقع العالم العربي، يجد أنه يعج بالكثير من العقائد، والأيديولوجيات ، التي وجهت علاقاته، وارتباطاته، لفترة ليست باليسيرة، مما جعل التيهان، والضياع العقائدي سمة واضحة، حتى أصبح الإنسان العربي، يلهج تارة باسم الاشتراكية ، وتارة أخرى باسم القومية، وثالثة باسم الرأسمالية ، لقد فقد هـويته العقائدية، ولم يعد لها وجود سوى الاسم فقط، ولكن دون المضمون والمحتوى، وأصبح نصيبه اللهث وراء السراب دون جدوى.
على الصعيد الأكاديمي أصبح العربي ومن خلال مؤسساته الأكاديمية مستهلكا للنظريات الغربية والشرقية في السلوك، والاجتماع، والطبيعة، والرياضيات، وفي كل علم، وفن، ولم يعد له أي إسهام يذكر في مجال ابتكار، وإبداع، وتطوير النظريات، والنظم والقوانين العلمية. إن عملية الاجترار ، أصبحت منظرا مألوفا، بل ومحمودا في كثير من الأحيان، لأن الخروج عن هـذه العملية، يعتبر تطرفا، وتعصبا، بل وتحجرا، لا يقبله العلم. في علم النفس على [ ص: 99 ] سبيل المثال، توزع المتخصصون بين مدارسه المختلفة، فهذا تحليلي المنهج، وآخر سلوكي، وثالث شرطي، ورابع جشتلطي إلى آخر القائمة. حتى إن المنظور الغربي، أصبح هـو المنظور المعهود، والمعتبر، وما سواه يصنف بأنه غير علمي، ويفتقد المنهجية. وفي علم الاجتماع، وتكون المجتمعات والعلاقات الاجتماعية، وخصائص المجتمعات، أصبح المعيار الغربي، والنظريات الغربية هـي الأساس، والإطار الذي يحكم من خلاله على تطور المجتمع، وتخلفه، دونما اعتبار لأسس وثوابت المجتمع المراد الحكم عليه.
على الصعيد السياسي، تحول العقل العربي ممثلا في نخبته السياسية ومن ورائها النخبة الإعلامية والمثقفة تابعا للمعسكر الشرقي أو المعسكر الغربي، (طبعا سقوط قبل الكتلة الشرقية) حتى إن العرب انقسموا في ولائهم السياسي، إلى الاتحاد السوفييتي، وكتلته الشرقية، وإلى أمريكا ، والكتلة الغربية المسيحية اليهودية.
ووفق هـذا التقسيم والولاء، أصبح العربي يدافع عن الاشتراكية ، أكثر من دفاع أصحاب الاشتراكية أنفسهم، ويدافع عن الرأسمالية ، أكثر من دفاع أهل الرأسمالية، حتى بعضهم أصبح يطبق القيم والمبادىء الاشتراكية على ذاته، وفي سلوكه، ومعاملاته، وهذا الوضع ينطبق على من يتمثلون الرأسمالية منهجا حياتيا، فقد ارتسمت آثار هـذا المنهج على كل تصرفاتهم، وسلوكهم، ولكي تتم عملية التحويل العقلي هـذه، كان لا بد للقوى المستفيدة، ومعها مجموعات النخبة، التي تنخدع بها الشعوب، أن تصنع مشروعا متكاملا، ينفذ من خلاله كل الألاعيب، والعبث بالمشاعر، والأحاسيس، مما جعل من السهل [ ص: 100 ] إثارة الأحقاد، والتناقضات الإقليمية، والعشائرية، والطائفية، والقبلية، وحتى اللغوية. وذلك بهدف ترسيخ، وبناء عقل قائم على استشعار الفتنة، والحقد، والكراهية، للإخوة والأقارب والجيران (إن إخضاع الشعوب العربية للرأسمالية العالمية، يقتضي اليوم بالدرجة الأولى، إخضاع طبقاتها الشعبية المتماسكة للرأسمالية المحلية، وللبرجوازية التابعة. وهذا الإخضاع كي يكون مطلقا ونهائيا، لا يكتفي - كما كان في المرحلة السابقة - بالقمع السياسي، وحرمان الشعب من التنظيم، أو العمل المستقل السياسي، ولكن أيضا وأساسا بالقمع الفكري، والتحطيم العقلي، الذي تقوم به الدعاية الدائمة الوحيدة الجانب، واحتكار الإعلام، والنخبة المثقفة التي باعت نفسها، كما يقوم به أدب غث منحط، وفن استلابي جنسي، أو تجاري رخيص. إن ما نحن بصدد رؤيته اليوم، هـو تحطيم عقلي، بعد التحطيم المادي الاقتصادي. وهذا التحطيم هـدفه نزع الجماهير من كل نظام القيم التاريخي، ومن شعورها بالكرامة والعزة، والاستقلال عن السلطة، وحرية التفكير، واحترام الإنسان، واحترام القيم من عدالة، ومساواة، وتضامن جماعي. إنه زرع عقلية أنانية، حقيرة، منحطة، مادية، تضع كل فرد من أفراد الشعب في وجه أخيه، وتجعله عدوا له. وستكون هـذه العقلية القاعدة الفكرية الضرورية، لهيمنة طبقة ونظام اجتماعي، قائم على النهب، والسرقة، والغش، والاختلاس، والأنانية، وعبادة المصلحة الفردية والمادة ) [9] . [ ص: 101 ]
هذا الارتماء في أحضان القوى الكبرى، ترتب عليه إحداث عقل عاجز سياسيا، من أن يتصور حل مشاكله بنفسه، ولذا فعليه طلب العون والمساعدة من غيره لحلها، حتى إن المرء ليعجب، حين يرى تصريحات المسئولين العرب، وهم يناشدون أمريكا أو بريطانيا أو الاتحاد السوفييتي (سابقا) التدخل لحل المشكلة الفلانية، أو للضغط على إسرائيل لإيقاف المستعمرات في الضفة الغربية وهكذا..
لقد ترتب على عقلية التبعية، التي أصلت لدى الإنسان العربي اتكالية مخزية، فغيرنا يتحدث عنا وعن قضايانا، وغيرنا يفكر بالنيابة، وغيرنا هـو الذي يعيد الحقوق المسلوبة، بهذه الصورة المعكوسة أصبح حال وواقع العقل العربي. المتتبع لقضية فلسطين على سبيل المثال، يتضح له سذاجة، وسطحية التعامل السياسي، من قبل النخبة السياسية، وأتباعها. إن أهم ما يميز العقل السياسي العربي إزاء هـذه القضية هـو اكتسابه سمة التنازل، وقصر النظر. رفض العرب عام 1948 قرار هـيئة الأمم تقسيم فلسطين،إلى دولتين، عربية، ويهودية، وحجة الرفض آنذاك هـي تحرير فلسطين، ويستمر مسلسل التنازل عاما، بعد عام، حتى أصبح العمل، والحديث الآن، يعمل على تهيئة العقل العربي، لقبول دولة إسرائيل الكبرى، من الفرات إلى النيل، بل إن الأمر ليتعدى ذلك، حين تتحدث صحافة الببغاء، عن أن مستقبل الحرب بين العرب وإسرائيل ، سيكون على مصادر المياه، والثروات الطبيعية، من بترول وذهب.. إلخ.
نقلة عقلية خطيرة، هـذا الذي يروض من خلاله العقل العربي، لا ليقر، ويقبل إسرائيل فقط، بل ليشعر بالسعادة، والغبطة [ ص: 102 ] والفرح، حين تكون مصادر المياه، التي يشرب منها، ثرواته الطبيعية، التي يعيش عليها، في مأمن من إسرائيل . هـكذا يكون الإيحاء بضرورة قبول إسرائيل وكما يقول المثل: (اضربه بالموت يقر بالشهادة) ، هـذا هـو الأسلوب الأمثل، لتجهيل العقل العربي سياسيا، وابتزارزه من قبل أبناء جلدته. وفق هـذا البناء العقلي، تكون الخلاصة: إنه لا حاجة من محاربة إسرائيل، وليس هـناك قضية، تستدعي ذلك، ولكن الأمر يستوجب الاعتراف بأبناء العم، وهذا ما عبر عنه مسئول عربي كبير، حين قال: التطبيع مع إسرائيل، يعتمد على وقف بناء المستوطنات. إذن القضية في نظر نخبة التجهيل، وقنواته، ليست دولة إسرائيل، فدولة إسرائيل أمر قائم، يجب قبوله، والترحيب به، ولكن القضية في نظر هـؤلاء، هـي فقط عدم التوسع والامتداد. وفق عقلية التنازلات، التي حدثت، يمكن الحديث مستقبلا عن مستعمرات يهودية، تقام في أقصى حدود المشرق العربي، أو في أقصى الحدود الغربية للعالم العربي، طالما أن العقل العربي، أصبح يستسيغ، وينظر بعين الرضا، لهذه الأطروحات، وما الذي يمنع حدوث مثل ذلك، لأن الاستعراض التاريخي، لتعامل العقل العربي، من خلال النخبة السياسية، أثبت انتهاءه إلى لا شيء، بل وإضاعة كل شيء جملة وتفصيلا.
غريب أمر العقل العربي ممثلا في نخبته السياسية، والإعلامية، والمثقفة، حين يجعل الغرب قبلته، وقدرته، ومرجعه في توجيهاته، وتوجهاته السياسية، لكن يرفض أن يقتدي بالغرب، حين يكون الدين، أساس النظام السياسي للدولة، أو لحزب من الأحزاب، الأحزاب السياسية في أوروبا، تقوم على أساس ديني، سواء أعلن ذلك [ ص: 103 ] في مسماه، أو وضع ضمن برامجها، وسياستها، والأمثلة كثيرة مثل: الحزب المسيحي الديموقراطي في ألمانيا ، والحزب المسيحي الديموقراطي في إيطاليا ، وغيرها كثير، في أمريكا تعلن الدولة أنها علمانية، ولكن الحقيقة خلاف ذلك، الأحزاب قائمة على مبادئ وقيم من الدين المسيحي، واليهودية، ورئيس الدولة، يقسم على الإنجيل.. إلخ، لكن لماذا يا ترى الأمر يختلف عند النخبة في العالم العربي؟ الأحزاب لا يمكن أن تقوم على أساس عقائدي إسلامي، ويجب محاربة مثل هـذا التوجه، وتشويه سمعة من ينادي به، أو يسعى له، فهو يدعو للفتنة، والتفرقة بين البلد الواحد، لكن لا مانع من قيام حزب عقائدي، قائم على الاشتراكية ، أو القومية ، لأن مثل هـذه الأحزاب لو حكمت، فستكون النتيجة ضياع الأمة، ودمارها، وهذا أمر محمود في نظر هـؤلاء.
لقد تميز العقل العربي من خلال النخبة السياسية، والإعلامية، بالاندفاع، وعدم التروي وإصدار الأحكام، دون تحليل العناصر، والمتغيرات الداخلة في تكوين الموضوع المراد الحكم عليه. فما أن يصدر تصريح بسيط، أو يحدث فعل هـامشي، من قائد، أو دولة، من الدول الكبرى، حتى تبادر النخبة السياسية والإعلامية، بتناول ذلك التصريح، أو الفعل بالثناء، والتجميد، والتهليل، مما يوحي بأن مشاكل الأمة، ستحل بطرفة عين طالما صرح ذلك المسئول، أو فعل شيئا ما.
الأمثلة على هـذا الشيء كثيرة، فالصحافة العربية، والسياسيون العرب، يعطون التصريحات الأمريكية إزاء قضية فلسطين، أكثر [ ص: 104 ] مما تحتمل، ويتفاءلون بها، وهي بعيدة عن ذلك, كم رأينا من العناوين التي تقول: القرار الأمريكي، يضع إسرائيل في الزاوية الضيقة، وتصريح الرئيس الأمريكي، يجبر إسرائيل على التخلي عن سياسة الاستيطان، وأمريكا عازمة على إجبار إسرائيل على الجلوس على مائدة المفاوضات، وقبول الأرض مقابل السلام. حقا أصدق ما يقال في مثل هـذه التصريحات أنه جهد عقلي استهلاكي، سطحي، وساذج.
مثال آخر على السطحية، برز من خلال ردود الفعل العربية الرسمية، حين تم تعيين وزير الدولة للشئون الخارجية المصري بطرس غالي ، أمينا عاما لهيئة الأمم المتحدة خلفا لبيريزدي كويلار . لقد صورت ردود الفعل، تلك الأمر على أنه انتصار للعرب، وتقدم تحمد عليه الدول، التي ساهمت في فوزه، نسوا أن بطرس غالي هـو أحد مهندسي اتفاقيات كامب ديفيد [10] الصديق غالي باشر مهمته بحماس، حيث دعى بعد انتصار المجاهدين الأفغان وسيطرتهم على مدينة مزار شريف إلى ضرورة عقد مؤتمر عاجل لمواجهة الأخطار التي يواجهها ذلك البلد على حد قوله. طبعا انتصار المجاهدين يمثل خطرا، لكن احتلال بلد آخر، واغتصاب عصابة إجرام لبلد آخر، يمثل حقا مشروعا تعقد من أجله الاتفاقيات في نظر الصديق غالي. كذلك نقلت عنه وسائل الإعلام، دعوته لتضافر [ ص: 105 ] الجهود لمواجهة الأخطار التي يواجهها السودان ، طبعا حينما بدأت قوات الحكومة السودانية، تنتصر على متمردي جون قرنق . بالإضافة إلى تصريحه حول القرار 242 بأنه غير ملزم لإسرائيل !! ومن الأمثلة التي تكشف واقع العقل العربي، والمتميز بالسطحية، إن لم يكن العقم أحيانا، حالة التفاؤل، والترقب المخزي، حينما تقترب مواعيد ألعوبة الانتخابات الإسرائيلية، فهذا الفريق يمتدح حزب العمل، وآخر كان يعلق آمالا على سقوط بيجن ، وثالث يراهن على هـزيمة إسحاق شامير ، ورابع يعلق آماله على الأحزاب الدينية، وهكذا تتضح معالم العقل العربي، الذي يفقد الرؤية الشمولية، القائمة على المبادئ، والمستخدمة لاستراتيجية طويلة المدى، واضحة المعالم، أما الانتخابات الأمريكية، فهي الترياق الشافي، لكل العلل والأمراض العربية، وما على العرب إلا الانتظار ليفوز الحزب الجمهوري أو الديموقراطي، أو ليكسب المرشح الفلاني، وهكذا يكون العقل العربي، طوال هـذه المدة مشلول الحركة، فاقد القدرة على التفكير والتصرف، لأن نتائج الانتخابات الأمريكية هـي التي ستحسم الأمر.
وضع مأساوي، وصورة قاتمة، ونتائج وخيمة، في حين أن العقل العربي منذ عشرات السنين، وهو يتفرج على مسرحية سقوط حكومة الليكود، لصالح حكومة العمال الإسرائيلية، أو انسحاب حزب شاس من الائتلاف، وهكذا يعيش العقل العربي، داخل هـذه الدوامة، حتى تتهيأ ظروف إفاقته ووعيه، واستعادته لرشده.
مجال آخر من المجالات التي يمكن من خلالها الحكم على العقل العربي، هـو الحركة الفكرية الثقافية، السائدة في العالم العربي، [ ص: 106 ] فهذه الحركة من الممكن استخدامها كمحك، نقيس من خلاله فعالية العقل العربي، ووعيه، بالإضافة إلى منظومته الفكرية الثقافية المتكاملة.
إن أهم ما أفرزته الحركة الفكرية، والثقافية، هـو موقف العقل العربي من مجموعة من المفاهيم، مثل العلمانية ، التطور، الحداثة، الحرية، الأصولية، الديمقراطية ، الرأسمالية ، الشعر الحر، مقابل العمودي، واللغة العربية الفصحى، مقابل العامية.. وهكذا.
لقد عمد مجموعة من المثقفين والمفكرين العرب، على اعتبار أن النهضة التي تشهدها أوروبا تعود إلى الفصل بين الدين والدولة، لأنهم يعتقدون: أن الدين يمثل حجر عقبة في وجه التقدم والتطور. ولذا أكدوا خلال إنتاجهم الفكري، والثقافي، على ضرورة علمنة كل شيئ، حتى يتم تطور العالم العربي. وفي زعمهم أن عزل الدين، وإبعاده عن واقع الحياة، سيحول العالم العربي إلى عالم قوي، منتج، مزدهر بالمعرفة والتقنية، وند صنديد لكل القوى المتربصة به. وقد نسي هـذا الفريق، أو تناسى، أن علمانية أوروبا المزعومة، ما هـي إلا أكذوبة وهرطقة (وقد ولدت الحداثة الفكرية في أوروبا، إلى حد كبير على قاعدة القيم، والمفاهيم، والمخيلة، والأهداف، والمطالب الروحية والاجتماعية، التي حددتها من قبل الثقافة المسيحية والغربية عامة، حتى إن بعض المحللين قد وصفوا فلسفة هـيجل ، بأنها إعادة صياغة، وتخريج، في ثوب حديث وعلماني، للمسيحية، وهذا يعني أخيرا، أن للثقافة تاريخا لدى كل مجتمع، وأن من غيرالممكن حذف التاريخ بجرة قلم، باسم عقلانية كونية قياسية، إن العقلانية هـي مسألة ثقافة، لا مسألة علم، بل إن عقلانية كل جماعة، أو بالأحرى كل حضارة، [ ص: 107 ] هي التي تحدد للعلم مقامه، ودوره، وحدود علمه، وآفاق تطوره ) [11] .
في نظر هـؤلاء عندما يتم تحطيم الدين، ودوره في المجتمع، وقصره على المناسبات والمساجد، والجوامع، يكون بمقدور المجتمع العربي النهوض والتطور، وعلى هـذه المعزوفة، عاش الإنسان العربي حالما بل ومستغرقا في أحلامه، ولعقود طويلة، آملا في حدوث الحركة، التي تجعله في مصاف الدول المتقدمة، علميا، وتقنيا وقد كان حصاد هـذه العقود فوضى فكرية، وتمزق، وتشرذم، وصراعات، وكيانات، لا نظير لها من حيث العدد.
إن الضياع والتيه هـو سمة المرحلة الماضية، وما تزال آثارها باقية، وستظل تلاحق الأجيال القادمة. (لم ينجم التغيير الفكري عن استثمارعقيدة جديدة، ولكنه نجم عن نزع كل عقيدة، ومنظومة قيم، من الحياة الاجتماعية. وهكذا ظهرت العملية الثقافية التحديثية، كقطيعة لا كارتباط جديد، وكتجريد للإنسان من تربية، لا إعادة تربية، ونشر للجهل، لا محو لأمية. وإذا كان استثمار العقيدة الليبرالية ، قد أدى إلى تحرير العقل، كمرحلة أولى في طريق بناء منظومة قيم، وتواصل ثقافية جديدة في الغرب، فإن التغيير الفكري، القائم على تحطيم العقيدة التقليدية، وتفكيك منظومة القيم القديمة، واللغة، وعلاقات التواصل والمفاهيم معا. لم ينجب إلا الانسحاق، وفقدان التوازن [ ص: 108 ] والاستلاب للعرب) . [12] .
مفهوم التطور، أو التحديث استنزف كثير من الجهود من قبل المفكرين والمثقفين، حتى إن رؤيتهم للتحديث، أصبحت تعني التخلي عن كل قديم، ولو كان مفيدا، مقابل الأخذ بكل جديد، ولو كان غير ذي فائدة. التحديث في نظر هـؤلاء يعني امتلاك أساليب الراحة في المنزل، والمركب، والمكتب، اكتساب أدوات التقنية، لا غير دون أن يكون هـناك إطار ثقافي، يحكم ويوجه هـذه العملية، حتى ولو أفضى ذلك إلى إهمال الصناعات الوطنية، والمحلية، أو حتى محاربتها، أو كسادها، وهذا هـو ما حدث بالفعل. لقد أصبح لهم الهم الأكبر للناس اقتناء الصناعات الأجنبية، دون أخذ الاعتبار، بما يترتب عليها من إفساد لسلوكهم، وأذواقهم، وحتى أخلاقهم.
قد يستغرب بعضهم، كيف أن المصنوعات تفسد السلوك، والأخلاق، فهذا قد لا يكون متصورا، ولبيان ذلك لا بد من الإشارة إلى أن معظم الصناعات، تكون الآثار الحضارية والثقافية واضحة البصمات عليها، فالمصنوعة تحمل رمزا، أو معنى حضاريا لمجتمع آخر، ودخول هـذه الصناعة لمجتمع آخر سيحدث شيئا من الولع، والافتتان بهذا المعنى، أو الرمز الذي حمله هـذه الصناعة أو تلك. على سبيل المثال: يباع في بعض الأسواق العربية، قمصان تحمل شارة الشذوذ الجنسي، وقمصان أخرى تحمل شارة العروض [ ص: 109 ] الجنسية للذكور Play boy هـل تتوقع، أن تمر مثل هـذه العلامات، دون إحداث أي أثر؟! لا نعتقد ذلك، فالأمر سيكون واضحا، ولا سيما عند الشباب والمراهقين، ومن هـم على شاكلتهم، وحتى إن لم يحدث مثل هـذا التأثر الأخلاقي، والسلوكي، فيكفي أن يتحول الأفراد، والمجتمع إلى مستهلكين للسلع، وللثقافة الأجنبية، دونما إبداع، أو إنتاج من قبلهم، ويكفي أن نعلم أن مشتقات البترول، لم تتمكن كثير من الدول العربية حتى الآن، من تصنيعها، وإنتاجها، وما تزال تصدر البترول كمادة خام، ثم بدورها، تقوم باستيراد مشتقات البترول من الدول التي صدرت لها البترول كمادة خام، وهذا يتم رغم قدم الدول العربية في إنتاج البترول، وتاريخها الطويل في ذلك.
أما على المستوى الاجتماعي، فإن لانتشار مفهوم الحداثة وتوسيع نفوذه علاقة وثيقة بازدهار الطبقات الوسطى، وبشكل خاص الريفية، أو الصاعدة من أصول ريفية، أو بدوية، والتي أعطاها تعاظم الريع النفطي، دفعة قوية مكنها من استيراد الحداثة، كموضوعات استهلاك جاهزة منعزلة عن التاريخ، وعن ثقافة عالمية كانت، أم محلية، فهي بهذا المعنى، التعبير البسيط عن التقدم الاستهلاكي.. والتي يقف تاريخها، وأفقها الاجتماعي، عند تحسين مستوى المعيشة، والاستزادة من الأجهزة الألكترونية والكهربائية [13] .
النتيجة الحتمية التي وصل إليها العقل العربي، هـي تحوله إلى عقل استهلاكي، غير آبه بماذا يستهلك، وما لا يستهلك، وما يحتاج [ ص: 110 ] وما لا يحتاج، ولعل أكبر شاهد على ذلك، هـو تلك العوائد المالية الضخمة، التي حصلت عليها الدول العربية، من جراء استنزاف كميات كبيرة من ثروتها الطبيعية، خلال السنوات الماضية، والتي صرفت على أمور استهلاكية بحتة، كالحفلات، وأدوات الزينة، وأقواس النصر المزيف، والمأكل، والمراكب الفخمة. مما ترتب عليه إهمال كثير من المرافق الأساسية، والقطاعات الإنتاجية.
اللغة العربية، وآدابها، وفنونها، هـي أيضا من الأهداف التي وجهت نحوها الكثير من الجهود، بغرض الإساءة لها، وتشويه صورتها، في أذهان أبنائها. إن أول ضربة وجهت لهذه اللغة هـي أنها لغة جامدة، غير مرنة، لا يمكن استخدامها، كلغة علمية حديثة، حيث لا متسع، ولا مجال فيها للعلوم الحديثة، ومصطلحاتها، ومفرداتها، ففي نظر بعضهم، أن اللغة العربية تعجز عن استيعاب العلوم، والفنون، ولذا لا يمكن الاعتماد عليها كلغة تعليم وتدريس، وتأليف، وتوثيق، فيكفي التخاطب بها، في أمور الحياة اليومية. لقد نسي هـؤلاء المخدعون، أن اللغة العربية، كانت في يوم من الأيام اللغة العالمية الأولى، بها يدرس، وبها يكتب، وبها تدون المعاهدات، والمواثيق، وبها تؤلف الكتب. اللغة العربية بمرونتها، واشتقاقاتها، تمكن الباحثون، والدارسون من إيجاد المصطلحات، والمفردات، لكل علم جديد، وفن حين توفرت العزيمة، ووجدت القناعة، بقيمة اللغة، وثرائها.
إن الحرب المعلنة على اللغة العربية، اتخذت أشكالا عدة، فمن [ ص: 111 ] قائل بصعوبة اللغة العربية الفصحى، ويرى إحلال العامية مكانها، كي يسهل الحديث والكتابة. ومن قائل بضرورة كتابة العربية بأحرف لاتينية، ومن مناد بضرورة الاستبدال الكلي. لقد نجح أعداء اللغة العربية إلى حد كبير، في إبعاد اللغة العربية عن ساحة العلم، والمعرفة، وذلك حين يعتمد التدريس في كثير من الجامعات على اللغة الإنجليزية، أو الفرنسية، أو غيرها، بحجة أن المصطلحات العلمية، لا تتوفر في اللغة العربية، وبحجة أنه لا يوجد كتب، ومؤلفات في اللغة العربية، وما إلى ذلك من الحجج الواهية.
كثير من الدول العربية تنص في سياستها المعلنة، على أن اللغة العربية هـي اللغة الرسمية، ولكن الواقع يقول خلاف ذلك، فهذه الدول تدرس جامعاتها معظم المواد، عدا مواد الدراسات الإسلامية، واللغة العربية، في لغات غير العربية، وتتم المراسلات، وأعمال الشركات والبنوك، في لغة غير العربية، ووسائل الإعلام الرسمية من صحافة، وإذاعة، وتلفزيون، تجدها تستخدم لغة أخرى، أو أكثر بجانب العربية، بحجة أن الأجانب الموجودين في البلد، لا بد من مخاطبتهم بلغة غير العربية.
روح انهزامية لا نظير لها. لماذا لم يقل الأمريكان، والفرنسيون، والبريطانيون، الشيء نفسه، بل قالوا، ويقولون: من أراد أن يأتي لبلادنا فليتعلم لغتنا. بقي أن نذكر أن اللغة العبرية، كانت لغة ميتة، إلى ما قبل قيام الكيان الصهيوني، ومن ثم أصبحت لغة علمية يدرس، ويؤلف ويتخاطب من خلالها. [ ص: 112 ]