إشكالية المصطلح
قضية أخرى ذات أهمية قصوى وهي: إشكالية المصطلح، والدلالة، التي يحملها.
عند الحديث عن المصطلح، وإشكاليته، نشير إلي فئة النخبة، من سياسين، وإعلاميين، ومثقفين، وكيف أن كل هـؤلاء يأخذون المصطلح، ويستخدمونه دون محاولة لفهمه، وفهم المقاصد الكامنة وراءه. لقد رسخ في أذهاننا الكثير من المصطلحات، دون وعي منا، وإدراك للدلالات والمعاني الحقيقية، والمضامين الشعورية، واللاشعورية، التي تحملها، مثل هـذه المصطلحات، فعلى سبيل المثال يستخدم مصطلح الشرق، كمقابل للغرب لا كمصطلح جغرافي، ولكن كمصطلح سياسي، للدلالة على تكوينات اجتماعية وثقافية، ولو تمعنا بدقة، ماذا نجد في الشرق، وماذا نجد في الغرب، من حيث التكوين الثقافي والحضاري، لا شك أن بعدنا عن ساحة العراك الثقافي، يجعلنا نأخذ المصطلحات، دون أن نبالي بدلالاتها، ومضامينها، وإلا ما الذي يمنع من أن نطرح العالم المسيحي، مقابل العالم الإسلامي. ويبرر مثل هـذا الطرح أن الله صنف العالم بناء على الاختلاف العقائدي، ولم يصنفهم وفق مواقعهم الجغرافية. يضاف إلى ذلك، أن التصنيف بناء على الإسلام والمسيحية، سيكون أكثر إثارة وحافزية، لأبناء الملة الواحدة، كي يتحدوا ويتكاتفوا ويلتفوا حول بعضهم، كما أن إطلاق مصطلح الشرق بهذا العموم فيه فئات أخرى غير مسلمة، تقطن شرق الكرة الأرضية، وهذا فيه إضاعة للمفهوم العقائدي. [ ص: 113 ]
مصطلح آخر طرحته الدوائر الغربية، وتلقفناه دون وعي وإدراك حقيقي للمغزى، الذي يكمن وراءه. كثيرا ما نسمع مصطلح قضية الشرق الأوسط، للدلالة على قضية فلسطين، لا شك أن الخبث، والذكاء يفوح وراء المصطلح، فقضية الشرق الأوسط، قد تكون مرتبطة في الوقت الحاضر بقضية فلسطين ولكنها مع الزمن تنفصل عنها، فقضية الشرق الأوسط فيها عمومية، قد تكون أي مشكلة من المشاكل الأخرى، التي تقع في المنطقة، أو ما حولها، ولكن قضية فلسطين فيها وضوح ومباشرة. ولذا نجد السياسيين العرب، والإعلام العربي، بدأ يحذف من قاموسه قضية فلسطين، ويستخدم بدلا منها مصطلح قضية الشرق الأوسط، وكما قلنا: مع الزمن تخرج قضية فلسطين من الشعور، إلى اللا شعور ، ومع الوقت تنسى في عالم اللا شعور، وتتحول إلى أمر تافه لا قيمة له على الإطلاق، وهذا ما يريده الأعداء، ولذا نجدهم يقولون: إنه لا يوجد أصلا قضية اسمها قضية فلسطين، فكل الذي يوجد مسألة لاجئين. إذا المسألة الجوهرية، وهي سرقة الأرض، والمقدسات، لا وجود لها، ولا مبرر للحديث عنها. كما أن في مصطلح الشرق الأوسط بعدا آخر، وهو ضرب الوحدة العربية، على المستوى الذهني، وبشكل غير مباشر، فلو قلنا: قضية فلسطين، لكانت الصورة الذهنية لفلسطين، ومن حولها العالم العربي، ولكن حينما نقول: الشرق الأوسط، فهنا تفتيت للعالم العربي، وتمزيق له، بالإضافة إلى اتساع الدائرة الذهنية، خارج العالم العربي، لتشمل هـذا العنصر الغريب، وهذا السرطان (إسرائيل ) [ ص: 114 ] دون وعي وإدراك، لمثل هـذا المأزق الذهني، التربوي، السياسي، والجغرافي، والحضاري أيضا.
النظام الدولي الجديد ، مصطلح حديث، وغريب، في الوقت نفسه، قدمته الدول الغربية، وفي مقدمتها أمريكا للعالم، ولنا نحن العرب على وجه الخصوص، حرصا منها على حقوق الإنسان والحرية، وحفاظا منها على القيم الإنسانية الخالدة، والغريب في هـذا النظام الدولي الجديد، أنه يستثني العرب من جني الثمار المحتمل ترتبها عليه، إلا أنهم ملزمون بمراعاة النظام، وتحمل نفقات، وتبعات إجراءات فرضه. هـذه فلسطين الجريحة، وأهلها الثكالى، يعانون من ظلم اليهود ، والعالم الغربي لهم، ولكن النظام الدولي الجديد لا يطبق عليهم، فهم أناس خارج دائرة النظام الدولي، حيث إنه وضع في الأساس لخدمة المصالح الغربية، والأمريكية بالذات. النظام الدولي الجديد بدأ مع أزمة الخليج، وطبق على العراق ، ومن ثم على ليبيا ، وبعد أزمة الخليج حدثت أحداث جسام في حق المسلمين في بورما ، وفي جمهورية البوسنة والهرسك ، إلا أن قاموس النظام الدولي الجديد، لا يوجد به مصطلح المسلمين، ولا حتى يحتمل إمكانية إدخال هـذا المصطلح فيه، ما يهمنا في طرح مصطلح النظام الدولي الجديد، أنه قدم لنا على صحن من سراب، وبدأنا نستخدمه كسياسيين، وإعلاميين، ومثقفين، دون أن نعي معناه، ولم نكلف أنفسنا لمعرفة مقاصده، ومضامينه. هـل نخسر شيئا لو طرحنا بعض الأسئلة قبل أن ننجرف كالإمعاة وراء كل ناعق؟! ماذا نخسر لو سألنا: [ ص: 115 ]
ماذا يقصد بالنظام الدولي الجديد ؟! ما أهم ملامح النظام الدولي الجديد؟ ما الأسس والمنطلقات التي ينطلق منها النظام الدولي الجديد؟ ما الفلسفة والأيديولوجية التي تحكم النظام الدولي الجديد، وتوجهه؟! ما الأهداف والمقاصد التي يتوخاها النظام الدولي الجديد؟! من يشمل النظام الدولي الجديد، ومن لا يشمل من شعوب العالم ومجتمعاته؟. من القائم على تطبيق النظام الدولي الجديد ؟. متى يمكن فرض النظام الدولي الجديد، ومتى لا يمكن تطبيقه؟ أين موقعنا من النظام الدولي الجديد؟ وهل كان لنا دور في تكوينه وإنشائه؟
هذه مجموعة من الأسئلة حول النظام الدولي الجديد، تكشف لنا حجم مأساة العقل العربي، ممثلا في نخبته، والتي دأبت على تلقف الأشياء والأمور دون وعي، ودون أن يبذل جهد يستهدف من خلاله معرفة الأمور على حقيقتها، وكشفها للأمة، دون خداع أو تلبيس. وهذا للأسف خلاف الواقع، فالواقع يقول: إن العقل العربي، كما يتعامل معه من قبل نخبته، وبما هـو ذو بعد عالمي، أصبح سلة مهملات، يرمى فيها كل نفايات العالم، دون جهد للغربلة، والتنقية، كما أن العقل العربي أصبح مجال تسفيه، وسخرية للآخرين، يتندرون به وبتصرفاته.
مجمل القول حول العقل العربي بعد هـذا التحليل من خلال الأمثلة التي عرضناها: أنه أشبه ما يكون في غيبوبة، ولا سيما في القضايا ذات الطابع الدولي، أو العالمي، حيث لم يعد بمقدوره معالجة أموره بالصورة الواجبة، والمرتجاة، كما أنه لم يعد فاعلا، بالصورة التي [ ص: 116 ] تؤهله، بأخذ زمام المبادرة، ومباشرة الأمور بنفسه، دون اعتماد، أو اتكاء، على غيره كي يحلوا له مشاكله.
وهذا يتأكد من خلال ضعف الدور والفعالية في تقديم مشروعه الحضاري للعالم، كما يفعل غيره، ممن هـم أقل تأهيلا وقدرا، بالإضافة إلى تقاعسه، وضعفه، وتردده، في المحافل الدولية، في تقديم أفكاره، ووجهات نظرة، والدفاع عنها، مما جعل الآخرين يتعاملون مع العقل العربي بكل جرأة، وأحيانا كثيرة بصفاقة، ووقاحة، وتحقير لم يشهد التاريخ له مثيلا. [ ص: 117 ]